مشروع قانون المالية في تونس.. هدنة ضريبية من أجل عودة النمو
تعتبر صياغة مشروع قانون المالية في تونس، كل سنة، عملية لا تخلو من حساسية بالنظر إلى تباطؤ النمو، والضغوط القوية على المالية العامة، وعمليات الحسم الصعبة في بعض الأحيان.
تقديم الحكومة التونسية، لمشروع قانون المالية لعام 2019 في الموعد المحدد، كما هو منصوص عليه في دستور سنة 2014 (قبل 15 أكتوبر)، لم يحد عن القاعدة.
وفي انتظار اعتماده، الذي يفترض أن يتم قبل 10 دجنبر المقبل، يتميز هذا المشروع من بين مشاريع قانون المالية التي سبقته على الأقل "بطابعه الطموح" على اعتبار أن عام 2019 هو عام انتخابي حاسم.
ومع انتخابات تشريعية في نونبر وجولتين من الانتخابات الرئاسية في نهاية العام، أعدت الحكومة وثيقة متميزة من خلال إعلانها للمرة الأولى منذ سبع سنوات، عن هدنه ضريبية. وبالنسبة للشركات كما هو الحال بالنسبة لدافعي الضرائب، فإن هذه الهدنة ضرورية بقدر ما هي حيوية، على اعتبار أنه تم منذ عام 2011، إقرار ما لا يقل عن 600 إجراء ضريبي، مما أدى إلى زيادة أعباء أصحاب المقاولات وتآكل القدرة الشرائية لدافعي الضرائب.
وبفضل الانفراج المسجل في سنة 2018، وانتعاش النمو ولو بشكل محتشم (قدر بنحو 3 في المائة)، والأداء الذي تحقق في مجال السياحة والصادرات، على وجه الخصوص، فإن المشروع المقدم من قبل الحكومة إلى مجلس نواب الشعب (البرلمان) يسعى ليكون مشروعا من أجل انطلاقة جديدة وتعزيز الإصلاحات.
وتهدف جميع التدابير التي يتضمنها المشروع، من خلال تعديلات مالية، إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية واسعة للزيادة في النمو وضمان الاستدامة على صعيد المالية العامة.
ومن حيث الأرقام، تجدر الإشارة إلى أن مشروع ميزانية الدولة لعام 2019 ينص على 13 مليار أورو من النفقات (بما في ذلك خدمة الدين). وتقدر الموارد الخاصة (موارد ضريبية) بنحو 10 مليارات أورو. ويتوقع تمويل الفرق (3 مليارات أورو) عن طريق الاقتراض الخارجي والداخلي. وبعبارة أوضح، فإن البلاد ستمول في عام 2019، ثلثي نفقاتها بمواردها الخاصة فيما ستمول الثلث الباقي عن طريق الاقتراض.
ولتحقيق هذه الغاية، فإن صياغة مشروع قانون المالية لعام 2019 يرمي أساسا إلى استعادة هوامش للمناورة المالية تدريجيا.
ويسعى هذا المشروع إلى تحقيق معدل نمو يفوق 3 في المائة، مع توقع سعر برميل النفط بأكثر من 70 دولارا. وبشكل ملموس سيتم جعل عجز الميزانية في حدود 3.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 4.9 في المائة في 2018، و 6.1 في المائة في عام 2017.
ومن شأن هذا السيناريو أن يجعل نسبة الدين العام في حدود 70.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 71.7 في المائة متوقعة بالنسبة لعام 2018. وستمثل كتلة الأجور 14.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويمكن أن ترتفع نفقات التنمية لتصل إلى 2 مليار أورو. وتبقى فاتورة خدمة الدين العام ثقيلة مع مدفوعات قد تصل إلى 3 مليارات أورو، مقابل 2.5 مليار أورو متوقعة مع نهاية عام 2018. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن تونس ستبدأ انطلاقا من 2019 في سداد القرض المتعاقد بشأنه في عام 2013 مع صندوق النقد الدولي.
وبموجب التدابير الضريبية، ينص مشروع قانون المالية لعام 2019 على اعتماد معايير دولية في المجال الضريبي واحترام الالتزامات الخارجية للبلاد.
ولكي يتم سحب البلاد نهائيا من القوائم الرمادية للاتحاد الأوروبي، المتعلقة بـ"البلدان المعرضة لمخاطر غسيل الأموال وتمويل الإرهاب"، كما وعد بذلك مؤخرا رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر خلال زيارته لتونس (25 و26 أكتوبر)، يتعين تلبية هذا المطلب.
ويقترح مشروع قانون المالية لعام 2019 أيضا تقوية الاستثمار وتنافسية المقاولات، ومواصلة الإصلاح الضريبي من خلال توسيع القاعدة، وتعزيز حقوق دافعي الضرائب ومكافحة التهرب الضريبي بالإضافة إلى التدابير ذات الطابع الاجتماعي.
وخلافا للسنوات السابقة تم تلقي هذا المشروع بشكل إيجابي من قبل جميع الفاعلين الاجتماعين والاقتصاديين، باستثناء المركزية النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يؤاخذ على الحكومة كونها وضعت ميزانية من شأنها أن تثقل كاهل التونسيين، ولإغفالها اتخاذ تدابير للقضاء على التهريب والتهرب الضريبي.
ويعتبر اتحاد أرباب العمل التونسي، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، أنه تمت الاستجابة للانتظارات المتمثلة أساسا في التخفيف من العبء على الشركات، وتشجيعها على الاستثمار، وضمان استمراريتها وكذا إتاحة فرص الشغل والتصدير.
أما بالنسبة لمنظمة الفلاحين، الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، فقد اعتبر من جانبه أن المقترحات الواردة في قانون المالية لسنة 2019 تستحق المزيد من التعميق من أجل تمكين هذا القطاع من استعادة أنفاسه.
ولم يكن رد فعل الخبراء الاقتصاديين والماليين قاسيا. حيث اعتبر البعض، أن الأمر يتعلق بقانون "تصحيحي"، للانزلاقات المسجلة في عامي 2017 و 2018. ويظهر ذلك من خلال الحد من اتخاذ إجراءات ضريبية جديدة. ويرى آخرون في المقابل، أن الأمر يتعلق "بقانون للمصالحة والتهدئة مع الفاعلين الاقتصاديين والأسر من خلال سلسلة من التدابير التي تطال في الوقت نفسه الاستثمار، والمقاولات والتغطية الاجتماعية".
ومن أجل ربط الطموح بالواقعية، فإن الحكومة تظل مدعوة في سياق سياسي غير مؤكد إلى القيام بعمل متواصل وفعال على حد سواء من أجل تعبئة الوسائل المناسبة للتمويل مع إحراز التقدم على مستوى الإصلاحات الهيكلية. ويتمثل التحدي بالأساس في إزالة العقبات التي ظل يصطدم بها حتى الآن الاستثمار الخاص والعام. ولتحقيق هذا الهدف يتعين العمل من أجل تحقيق الاستقرار الماكرواقتصادي وتصحيح إنتاجية العمل، واستعادة مردودية المقاولات وإعادة صياغة العمليات الإدارية والتخفيف من عدم اليقين على الصعيد السياسي المرتبط بالأجندة الانتخابية.
المصدر: الدار – وم ع