لمحات من تاريخ الأندلس.. الحلقة السادسة
نهاية الخلافة وبداية التفرق (1)
كان أقل من ربع قرن كافيا لسقوط الأندلس مثل قصر من ورق، وهو بناء شيده بنو أمية بعد جهد جهيد. وتُكشف أسباب هذا السقوط السريع بين ثنايا كتب المؤرخين العرب. فقد عجز كل من هشام الثالث، أو سانتشويلو كما كان يطلق عليه الإسبان، وسليمان عن التحكم في قواتهم العسكرية وكذا الحشود الشعبية.
وقد أسفرت الهبة العامة للأندلسيين بداية القرن الحادي عشر عن إضعاف الدولة، وهو ما عجل بإطلاق مسلسل السقوط انطلاقا من سنة 1009 وتلاشت اللحمة الواحدة التي كانت تشكل الأندلس تاركة المكان لظهور مجموعة من الدويلات الصغيرة سرعان من اخفت أطلق عليها ملوك الطوائف. ومنذ سنة 1031، انتقلت قرطبة وسلسلة أخرى من المدن المهمة إلى أيدي حوالي عشرين ملكا أو حاكما.
وبوفاة الحكم الثاني سنة 976، خلفه ابنه هشام الذي لم يكن سنه يتجاوز إحدى عشرة سنة مما عقد اعتلاءه العرش بشكل مباشر، مما جعله يتحول إلى وصايه ابن أبي الأمير إلى بلوغه سن الرشد. وكان ابن أبي الأمير، والذي عرف بعد ذلك بـ "المنصور"، ينتمي إلى الأسرة اليمنية التي رافقت طارق ابن زياد في رحلة الفتح الأولى. كان لغويا كبيرا وسياسيا وعسكريا وشغل منصب وزير الخليفة واستغل الصلاحيات التي منحه إياها الخليفة لتوسيع تأثيره إلى كل الجوانب السياسية وبالتالي خلق نظام خلافة آخر تحت الظل، ليس تحت سلطة الخليفة الشاب وإنما سلطة الملكة الأم صبح التي كانت ترأس نظام وصاية ضعيف إلى حين بلوغ هشام الثاني سن الرشد. وكانت تلك المرأة جارية الحكم الثاني وأم أبنائه جارية المنصور فيما بعد.
بعدما أصبح موضع الثقة وقوّى ظهره بالتأثير السياسي للحاجب، وجه نظره صوب التحكم في الجيش. عيّن على رأس القوات وأرسل إلى شمال إفريقيا حيث جمّع كل أنواع المقاتلين ليكون بهم أساس فيالق بربرية جمعته بها علاقة قوية جدا. كما صادق أيضا القائد الأندلسي غالب بعدما تزوج من ابنته. وتآمر الاثناء على الحاجب المصحفي وقتلاه. وبعدما استفردا بالسلطة بدآ بشن حملات قصيرة في مداها على النصارى.
أحكم المنصور قبضة على مفاصل الدولة وكان له تأثير كامل على العرش. وكان يرى أن قرطبة ليس بالمكان المثالي لإحكام قبضة الحديدية على حياة ونزوات الخليفة لذلك أمر ببناء مدينة الزهراء في ضواحي قرطبة وحبس فيها هشام الثاني.
لم يعترض هذه الخطط إلا حدثين هامين هما، أولا، تدخل صبح التي حاولت سرقة جزء من الكنز الملكي لتمول به جيوش زيري في شمال إفريقيا الوحيد الذي كان يهابه الوزير المتسلط بهدف العبور إلى شبه الجزيرة الإيبيرية وقتال الوزير. كشفت المؤامرة وتم تفكيكها. أما الحدث الثاني فتمثل في أن الصداقة التي ضمت المنصور وغالب تطورت إلى نزاع بينهما انتهى بمقتل ولد الزوجة.
بعد التعامل مع هذه المشكلتين الداخليتين وتوحيد الخلافة على غرار ما كان عليه الشأن أيام عبد الرحمن الثالث، اتجه بغزواته نحو الشمال حيث برشلونة وليون ثامورا وغيرها. كما هاجم أيضا سانتياغو ديكومبوستيلا، مركز العالم النصراني بعد روما والقدس، وحصل منها غنائم كبيرة. وإمعانا في إذلال النصارى، قام بجعل السجناء النصارى ينقلون أجراس الكاتدرائية هناك على أكتافهم إلى مدينة قرطبة.
انتهت جل حروب المنصور بالنصر وكانت آخرها في منطقة سان ميان دي كوغويا قبل أن يموت. لكن قبل أن يسلم روحه أوصى لابنه المظفر الذي وإن استطاع الحفاظ على الحكم بشكل سليم فإنه لم يكن قط في مقام أبيه، لدرجة أنه حينما كان عائدا من إحدى الغزوات فاجأت شعبية في قرطبة كانت تعتقد بسلطة الخليفة الشرعي الوحيدة وليس بسلطة الوزراء المتسلطين. وتوفي المظفر سنة 1008 بعد سبع سنوات من قضاها في الحكم.
ظل هشام الثاني معزولا وكان عليه أن يولي خلف المظفر. عين عبد الرحمن سنجول بفضل علاقات هذا الأخير مع أهل الحل والعقد ممن صوتوا لصالحه ووقعوا على وثيقة تعيينه. واستأنف سنجول حملاته العسكرية في الشمال. وخلال إحدى تلك الحملات رفع محمد المهدي السلاح وأحرق المدينة الزهراء. حاول سنجول العودة لإخماد الثورة لكن قتله سنة 1009 أحد مرسلي المهدي قبل أن يبلغ قرطبة، وبذلك طويت صحفة من تاريخ الأندلس.
من محمد المهدي إلى وفاة الثاني
لم ينته كل شيء بنهاية الدولة المروانية، بل حرص المهدي على الاستفراد بالسلطة وأخفى هشام الثاني (أو المؤيد) في الركن وأعلن وفاته وأمسك بزمام الأمور. وتأسست سياسته من جهة على السلب والنهب والتخريب، ومن جهة أخرى على إلغاء سلطة كل من كانت لهم صلة بالنظام السابق من قريب أو من بعيد، وكان من بينهم البربر المكونين للجيش. وكانت من نتائج تلك السياسة إذكاء الضغط الاجتماعي والرفع من حدة الانقسام العرقي، مما أسفر عن حدوث معاناة ومجازر فضيعة.
وحاول هؤلاء البربر مواجهة المهدي وتولية شخص آخر منهم على العرش، لكنه تعرض للاغتيال على الصقالبة حلفاء الخليفة الجديد. كما حاولوا أيضا تولية شخص آخر عرف بسليمان، حيث بحث هذا الأخير عن دعم ملك قشتالة سانتشو غارثيا الذي جمعه به تحالف كان من بنوده تقديم الملك القشتالي دعما لسليمان مقابل تنازله عن حصون إسلامية مجاورة لأراضيه. وهو ما تم بالفعل. وأطلق سيلمان والقشتاليون حملة كبيرة على المهدي. وعندما اشتد الأمر على المهدي ورأى أن أمام أمر جلل أعلن أن هشام المؤيد ما يزال على قيد الحياة وأن عملية الدفن التي قام بها في السابق ما هي إلا تمثيلية يضطر معها الشعب لمبايعته خليفة عليهم. هذا التحرك لم يثر تعاطف المروانيين فما كان من سليمان إلا أن هجم على قصر الخلافة وأخرج المهدي وأعلن نفسه خليفة جديدا.
وارتكب سليمان خطأ قاتلا باستهانة بمدى خطورة الوضع، حيث تسبب تعيين ابنه خليفة له في إذكاء حقد القرطبيين للبربر وهو ما أسفر عن حدوث سلسلة من الهجمات والهجمات المضادة بين البربر الموالين لسليمان والمروانيين الموالين للمهدي.
وقد استطاع أحد حلفاء المهدي من الصقالبة حينما أعلن نفسه خليفة من قلب الكفة لصالحه. حيث حرص على إعادة هشام الثاني إلى العرش وعينه هذا الأخير حاجبا له. ورغم أنه منح حرية تامة للتحرك والعمل إلا أنه أظهر عدم قدرته وامتلاكه لحس المبادرة. وأدى الاختلاف في مجال السياسة بين الصقالبة إلى اغتيال الحاجب المتغلب.
واستغل سليمان تلك الظرفية وطالب بالعرش مرة أخرى. وهو ما تم بالفعل حينما تنازل له هشام الثاني عن صولجان الملك. ويقول بعض الكتاب إن سليمان كانت له من الجرأة ما أقدم به على اغتيال الخليفة لدعمه للصقالبة؛ ومنهم يؤكد أن هشام الثاني استطاع عبور المضيق والاختفاء في إحدى زوايا المشرق. وأيا تكن الحقيقة فقد استطاع سليمان تصفية المشكل العرقي، لكنه ظهر له آخر تمثل في أن عدوه كان داخل أسوار المملكة.
ويقال إن حاكم سبتة، علي ابن حمود، حليفه السابق تآمر عليه لأنه اتهمه بقتل الخليفة. واستطاع هذا ابن حمود الوصول على رأس جيش إلى قرطبة وأزال سليمان وأسس دولة جديدة أطلق عليها الحمودية.