الدين والحياة

عبادي: حقوق الإنسانية انتصار للمشترك الإنساني والتسلح يزرع الخوف

المحجوب داسع

دعا الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الى إيلاء البحث العلمي الجاد في مجال حقوق الانسان العناية والاهتمام اللازمين، من خلال الاستشكال الممنهج، والتساؤل وتيمم القبلة بغية الخلوص الى النتائج المرجوة من البحث المستدام في مجال حقوق الانسان"،  مؤكدا على ضرورة التطلع الى الأفق المشترك بين الإنسانية بشكل وظيفي قابل للقياس، من خلال الاهتمام بحقوق التنمية المستدامة، و من بينها الحق في الأمن و السلم، واعمال الأبعاد الحقوقية على نحو جديد.

وأكد الدكتور عبادي، في محاضرة ألقاها، زوال أمس الثلاثاء بالرباط، في اطار ملتقى "الايسيسكو الثقافي" حول موضوع "من حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية: قراءة في المستلزمات المعرفية والمقتضيات السياقية وآليات التعاطي"، على ضرورة استحضار جملة من المقتضيات عند الانتقال من حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية، من بينها الوعي بالمشترك الإنساني ذي الصلة بأبعاد حقوق الانسان، من خلال مقتضى "التمثلية والاستحضارية"، و المقتضى المرجعي والقيمي، وهو ما أسماه الأستاذ المحاضر بـ "التنسيب الثقافي المرجعي"، الذي تمخض عنه نحت نظرية "النسبية الحقوق المعكوسة الراجعة"، على اعتبار أن هناك مناطق لها ثقافات مختلفة ومتنوعة في سيرورة الانتقال من حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية.

وفي تفصيله لهذه المقتضيات التي تؤمن الانتقال السلس من "حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية"، قال الدكتور عبادي، ان هذا الانتقال الى حقوق الإنسانية يقتضي أيضا ان يكون لهذه الحقوق حملة وهم الناس الذين يتوجب عليهم تملك هذه الحقوق، وتمثل أبعادها، مع ضرورة الكف عن النظر الى المجتمعات كـ"تكتلات" بل كمكونات اجتماعية تتكون من أسر، شباب، يافعين، مؤثرون، ملهمون، أطفال…."، مبرزا في هذا الصدد ضرورة استحضار ظهور جيل "الانسان ذي السيادة الفردية" في القرن الواحد والعشرين، الذي أضحت له أحلام، وارتفع لديه منسوب المطالبة بالحقوق، وهو الأمر الذي يتعين، "أخذه بعين الاعتبار، يردف الدكتور عبادي، عند إقامة هذه الحقوق في المجتمعات المعاصرة.

وفي هذا الصدد، شدد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، وهو يقتفي مستلزمات الانتقال الآمن من "حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية"، على أهمية مقتضى "تتالي الأجيال"، وضرورة تحسيس الفرد بهذه الأبعاد الحقوقية بشكل يؤدي الى تملكها، مشيرا الى أن المجتمع "تكوين ذري"، وأن الحقوق الانسان لن يكون لها تأثير دون أنساق تحملها، وتشريعات تواكبها، ومؤسسات حاملة لها، وآليات لرصدها وتتبعها وتجويدها".

وأضاف الدكتور عبادي،  أن " الحديث عن حقوق الانسان يكتسي بعدا بهيا جماليا، لكن يتعين استحضار المقتضى الواقعي، والمتمثل في كون هذه الحقوق أضحت في الوقت الراهن، ترسانة ليتحالف بعضنا ضد البعض، ولتنفيذ أجندات خاصة، ليتحول البعد الجمالي لهذه الحقوق الى "سلاح ضارب"، يستعمل في عالمنا اليوم بين الدول والأفراد، والأذل على ذلك 17 تريليون دولار التي تنفق سنويا في التسلح ونفث سم الخوف الزحاف، في حين أن الواقع المعاصر يقتضي بناء أسس الثقة المتبادلة وبلورة صيغ مشتركة لاقتصاد هذه الأموال والميزانيات الضخمة في مشاريع لاحلال السلم، واحقاق حقوق الانسان، وعلى رأسها الحق في التنمية المستدامة، و السلم.

وحذر الأمين العام للرابطة المحمدية، من مغبة "سب جريرة وذكاء الانسان المعاصر"، الذي ارتفع لديه منسوب الحقوق في اطار ما يسمى بـ"الانسان الفردي ذي السيادة"، مؤكدا أن منظومة حقوق الانسان تقتضي المزج والوشج بين الحقوق و الواجبات، في اطار "الجيل الثالث من الحقوق التضامنية، التي تضمر هذا الربط بين الحقوق الواجبات بشكل وظيفي.

وأمام استفحال جملة من الأزمات الحارقة في عالم اليوم بسبب السباق نحو التسلح، وسيطرة خوف الإنسانية بعضها من بعض، شدد الأمين العام للرابطة على ضرورة تعزيز آليات الرصد والتتبع لمنظومة حقوق الانسان في عالمنا المعاصر، بشكل ناجز وفعال، مع ضرورة إيلاء البحث العلمي الرصين لرصد هذه الطفرات في منظومة حقوق الانسان الكونية، لتأمين الانتقال السلس، من "حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية"، وهو الأمر الذي يحتاج الى استبانة مفاهيم حقوق الانسان، والتمكن منها، وتملك اللبنة التي توثت فضاء البحث في هذا المجال، الذي له جملة من الآليات والقواعد الخاصة به.

وأشار الأستاذ المحاضر، وهو يقتفي المقتضيات السياقية للانتقال من حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية، الى أن "الاشتغال البحثي في مجال حقوق الانسان له آليات وأدوات اشتغال خاصة، يتم نحتها وفق الموضوع المبحوث فيه، من خلال مفاصل ثلاث: التحسيس، النهوض والتتبع والحماية، وضمن منهجية واضحة لابد من تكييفها مع موضوع البحث".

هذا المقتضى، يردف الأستاذ المحاضر، يستلزم وجود مؤسسات لها قدرات ومهارات تؤسس بداخلها مناهح تكوينية، مؤشرات رصد، وكذا تقويمات وقياسات لرصد، وتتبع ومواكبة موضوع حقوق الانسان، بغية الانتقال من حقوق الانسان من مستوى "الاستيطيقي الجمالي" الى "المستوى الوظيفي الاجرائي"، مبرزا ان "الحديث عن الحقوق الفردية يقتضي استحضار الجوانب التي تحقق العدالة، والتوازن، والالتزام المشترك والمتبادل، فضلا عن ضرورة تعزيز مؤسسات الضبط والتتبع على المستوى الدولي، والنظر المستأنف للإشكاليات المطروحة في مجال حقوق الانسان في عالم اليوم".

وقال الدكتور عبادي،  ان " الانتقال من حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية، يقتضي  القضاء على البؤس على كوكب الأرض، والادراك الواقعي لإشكالات كوكبنا المرتبطة بارتفاع التسلح، الناتج من خوف بعضنا من بعض،  ملفتا النظر الى أهمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لشفط سم الخوف، والاستثمار الزمني في بعد التعاون المشترك من أجل التنمية المستدامة في اطار الوشج بين الحقوق والواجبات".

ولافت الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الانتباه الى ضرورة الاهتمام بمنظومة التربية والتكوين من خلال اشراك العلماء، القصاصون، الرسامون، والملهمون في استبانة وتمثل حقوق الانسان، قصد بلورة مضامين رافعة وناجعة لرفع صرح مشاريعنا في هذا المجال، بشكل وظيفي، والانتقال من حقوق الانسان من مستوى "الاستيطيقي الجمالي" الى مستوى وظيفي عبر تقوية مؤسسات التتبع والرصد"، مشيرا الى أن " التداول السياسي في بلداننا لايجب أن ينفك عن البعد الحقوقي، بل لابد من انخراط الأبعاد السياسية والتدبيرية في هذه المشاريع المهتمة بحقوق الانسان بشكل مستدام".

ودعا الدكتور أحمد عبادي في ختام مداخلته، الى ضرورة الوعي بمقتضي سياقي في غاية الأهمية قصد ضمان انتقال سلس من "حقوق الانسان الى حقوق الإنسانية"، وهو أننا نعيش في زمن يعرف "انفجار" لقدرات وطاقات الانسان ذي السيادة، والعملة الأنفس في هذا الصدد، هو القدرة على جذب ولفت الانتباه قبل الآخرين، مبرزا أن "الخطاب الكلاسيكي لم يعد مجديا، وأن الانتقال الى منظومة حقوق الانسان تقتضي الإبداع في مجال تنزيل هذه الحقوق، وجعل الأفراد المتوالية تتملكها وتمثلها".

وتم خلال هذا الحفل، الذي احتضنه مقر منظمة التربية والعلوم والثقافة "الايسيسكو"، تكريم السيد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الى جانب تكريم فضيلة الدكتور عباس الجراري، عميد الأدب المغربي، الذي حل ضيفا على ملتقى الاسيسكو الثقافي الأول الشهر الماضي.

وتندرج محاضرة الدكتور عبادي في اطار الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الانسان، الذي يصادف العاشر من دجنبر من كل سنة، وفي اطار عمل الايسيسكو لتعزيز العمل الثقافي المشترك للدول الأعضاء وجعله رافعة للتنمية المستدامة، واستجابة لتطلعات النخب الفكرية، والفاعلين الثقافيين.

وتروم المنظمة من خلال هذا الملتقى الثقافي، أيضا، أن يكون منصة دولية للكفاءات الثقافية، ومحضنا للنخب الفكرية لتدارس موضوعات الشأن الثقافي في العالمين العربي والإسلامي.

وتبرز راهنية موضوع محاضرة فضيلة السيد الأمين العام، في كون حقوق الانسان من الموضوعات التي حققت فيها الإنسانية تجارب متنوعة وفق سياقاتها الثقافية والتاريخية، مما أفرز اليوم قفزة أخرى للانتقال الى جيل جديد من الحقوق يأخذ بعين الاعتبار حقوق البشرية والأجيال المستقبلية، ويعيد صياغة المنظومة الحقوقية التقليدية من إطارها الفردي إلى إطار جماعي يتجاوز الحاضر للتوجه نحو المستقبل.

وتعتبر" الايسيسكو" في الورقة التقديمية لهذا المنتدى، أن العقل المسلم له تصور معرفي وديني عن قضايا الحق والحقوق سواء في أبعادها الفردية أو الجماعية أو المقاصدية، وله أيضا تجربة تاريخية متميزة، كما ان اللقاء توخى ابراز ما يمكن أن يسهم به الاجتهاد الفكري المعاصر وفق أطر معرفية متنوعة، وسياقات ثقافية ودينية وتاريخية مختلفة، وآليات مبتكرة تحتم تناول قضية الحقوق بعيدا عن منطق الفرض والمركزية والتغريب، أو منطق الانكفاء والتقليد والجمود.

زر الذهاب إلى الأعلى