المواطن

الآذان الصماء وحكاية مليون وثمان مائة ألف شاب مغربي

بقلم: يونس التايب*

ونحن نستعد لتوديع سنة 2018، ستنطلق عما قريب عمليات تقييم إنجازات وأحداث السنة، وقراءتها من زوايا متعددة، واستشراف أثرها على السنة القادمة. ولأنني جزء من هذا الكُل المتفاعل مع محيطه، الوطني والدولي، سأحاول الانطلاق في سلسلة مقالات، هذا أولها، أقتفي أثر بعض ما حملته السنة المنتهية، من قضايا و أحداث ومواضيع، بعضها مفـرح يبعث على الأمل، والبعض الآخر يملأ النفس حزنا وضجـرا.

وسأتوقف بداية، مع أول رقـم أثـر في نفسي كثيرا عند سماعـه، وأردت أن أفكـر معكـم بصـوت مرتفـع في دلالاته التي أعتبرها كارثية بكل المقاييس.

أصل الحكاية أن المندوبية السامية للتخطيط، باعتبار مهامها واختصاصاتها الواضحة، تقوم بين الفينة والأخرى بنشر إحصائيات، تهم مختلف أوجه الحياة السكانية، ببُعـد مجالي إقليمي وجهـوي ووطني، أو ببُعـد موضوعـاتي متنـوع فيه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وغيره.

والرقم الذي أريد التوقف عنده هنا، يهـم شبـاب هذا الوطن، و يُبرز أحد أوجه الواقع المؤسف الذي يعيشه جزء كبير منهم، وتعيشه معهم مئات الآلاف من الأسـر، في صمت غير مسؤول لعـدة قطاعات حكوميـة، ولعـدد كبيـر من الهيئات السياسية والمدنية، التي لم تحرك ساكنا ولا استرعت اهتمامها جسامة الرقم وخطورة دلالاته. و كأن المندوبية السامية للتخطيط لم تُصرح بشيء، ولا هي زودت مسؤولي تدبير الشأن العام، برقم كان يجب أن يعنيهـم بصفة مُلحة، لأثره البالـغ حاضرا ومستقبلا.

البداية كانت شهر مارس من سنة 2018، حين أعلنت المندوبية السامية للتخطيط أن 29.3%  من شباب المغرب، بين سن 15 إلى 24 سنة، لا يـدرسـون، ولا يعـمـلـون، ولا يتابعـون أي تكـويـن.

تصوروا معي ما معنى أن يكون شباب بتلك الأعـداد لا يـدرسـون ولا يعملـون ولا يتكـونـون !؟ أتـدرون ما معنى ذلك؟ معناه باللغة الدارجة "جالسين… ما تايديروا والو"، ليس لهم حاضر ولا يبنـون مستقبلا، وليس لهم دخـل، ولن يكـون لهم دخـل مشروع إلا بمعجزة.

إذا علمنا أن هذه الفئة العمرية يتجاوز عددها، في المغرب، 6 ملايين شخص، فإن نسبة 29.3 في المائة منها، تساوي تقريبا، بلغـة الأعـداد وليس النسب، مليـون وثمـان مائة ألف طفـل وشـاب (1.8 مليون). بمعنى أنه لو لم تكن وراء هؤلاء الشباب أسر تشقى لتغطية مصاريف عيشهم، أو لو تـركوا لحالهم، أو لو افترضنا أن عائلات هؤلاء الشباب ليست موجودة في هذه الدنيا، فإن 1.800.000 شاب بين 15 و 25 سنة، سيكونون، الآن بيننا، وهم عاجـزون عن توفيـر الأكل والشرب، كما سيتعـذر عليهـم الذهـاب لزيارة الطبيـب إذا مـرضـوا، أوالسكـن في منـازل لأنهم لن يستطيعوا توفير واجبات كراءها، كما أنهم لن يستطيعوا أن يُحبـوا ويتزوجأوا ويكونـوا أسرا ويكون لهم أبناء. هي مصيبة مطلقة، أليس كذلك؟

ولأنني من أشد المدافعين عن أهمية البُعد المجالي Approche territoriale في أي تفكير أو تخطيط استراتيجي، لكون المجال ملموس ومحسوس، وهو يُعطي الأشياء دلالاتها الحقة على الأرض، أكثر من دلالاتها في "الخيال"، أوضح لكم أكثر معنى هذا الرقم الكبير جدا.

الرقم هو يعادل ثلث سكان الدار البيضاء، أو لنقل هو يعادل مجموع سكان مدينتي "فاس و مكناس"، أو يعادل مجموع سكان مدن "سطات وبرشيد والجديدة وخريبكة و خنيفرة"، أو يعادل أكثر من مجموع سكان "جهة درعة تافيلالت" بمُدنها كلها "الراشيدية ، ورزازات ، ميدلت ، زاكورة، تنغير، الريصاني ، أرفود". استوعبتم ضخامة الرقم؟

طيب، بالله عليكم، تصوروا أنفسكم أنكم قررتم القيام بجولة على متن سيارة، رفقة الأهل أو الأصدقاء، و اخترتم السفر إلى إحدى المدن التي أشرت إليها أعلاه. وحاولوا تخيل المنظر وأنتم تدخلون تلك المدن وتجدون كل السكان "جالسين ما تايديروا والو…"، و"ما عندهم ما يصرفـوا، ولا ما ياكلـوا، ولا فيـن يسكنـوا"، لأنهم ليس لهم دخل، لكونهـم "لم يدرسوا، ولا يعملون، ولا يتكونون حاليا، ليحلموا بعمل في المستقبل"!؟

أتمنى أن تكون الصورة الآن واضحة في الأذهان بشأن رقـم هام صدر عن مؤسسة رسمية محترمة، ومـر هذا الرقم دون أن تخبرنا بلاغات رسمية، أن مجلسا حكوميا انعقد بصفة استثنائية "يوم جُمعة، رغم أنه سبق وانعقد اجتماع مماثل قبل ذلك بساعات، يوم الخميس" وكان جدول أعمال المجلس، نقطة فريدة هي "مدارسة موضوع هؤلاء الشباب واتخاذ إجراءات عاجلة للتعاطي معه من موقع المسؤولية الحكومية"، وتم فورا إصدار "مراسيم تفعيل القرارات" التي اتخذها المجلس وتم إصدارها، في الجريدة الرسمية يوم  السبت، دون انتظار يوم الإثنين أو الخميس، لاستعجال الأمر و"خطورته" على "الأمن الطاقي للمغرب"، والطاقة في قولي هنا، هي "طاقة الرأسمال البشري" للشباب الهادر حماسا وطموحا وأملا في مستقبله في هذا الوطن.

كما مر الرقم، ولم نسمع أن أمانات عامة لأحزاب وطنية،  دُعيت "على عجل"، لتتـدارس "الظلم الذي يطال 1.800.000 مغربي"، ولتنظر، بكل ما أوتيت من "قوة" قياداتها وكفاءاتهم، في كيفية التعاطي مع واقع هذا "الظلم الخطير الذي سيعيدنا سنوات للوراء، إلى مراحل مظلمة في تاريخ المغرب" عندما كان الناس في فقـر وفاقـة، وكان عـام البـون، وكانت الأمور ليست على ما يرام.

كما أن الرقم صدر و لم تعقـد أي من الوزارات المفترض أنها معنية بمثل هذه الموضوعات، اجتماعات استثائية لـتـجـنـد أليات تدخلها، بغـرض استيعـاب الموضوع وتحليل تجلياته، وإبداع حلول جديدة للتعاطي معه.

وهنا أتسائل بكل صدق هل في حكومتنا قطاع وزاري يمكن اعتباره معنيا؟ أو هل فيها من يعتبر نفسه معنيا ؟ أو عل فيها من بادر بشجاعة وغيرة إلى الفعل الجاد، ولو لم تكن النصوص التنظيمية واضحة بشأن ارتباطه بهذه الفئة؟

صراحة، بحثت ولم أصادف أي خبـر أو تقـرير يـدل على أن قطاعا حكوميا ما، اعتبر نفسه معنيا بهؤلاء الشباب، قد يكون أصدر بيانا أو تصريحا يبعث من خلاله رسائل اطمئنان للمغاربة. وهذا يعني بكل أسف، أن لا أحـد بإمكانه الآن أن يخبـرنا عن شيء عملي ملموس بشأن 1.800.000 شاب مغربي، و أن يبين لنا، مثلا، ما هو التوزيع المجالي لهؤلاء الشباب بالتحديد ؟ وماذا يفعلون الآن ؟ وكيف يعيشون ؟ وما هو وضعهم الصحي والنفسي والاجتماعي ؟ لأنني لا أتصور أن بقاء شاب في وضعية كهاته ستحافظ له على توازنه النفسي والصحي. ثم يبين لنا شيئا دقيقا عن "الكفاءات الحياتية" لهؤلاء الشباب،  التي اكتسبوا برغم أنهم لم يدرسوا ولا يدرسون. أو يتم إخبارنا أنه قد تم تحديد هويات المعنيين وعناوين سكنهم، وأنه سيتم التواصل معهم، وستقوم فرق من الرشدسن الاجتماعييت والإخصائيين في مجال الاشتغال مع الشباب، تابعين لجهة حكومية متخصصة، قصد التعاطي معهم باحترافية وعبر آليات هندسة اجتماعية ناجعة، و تمتيعهم بمواكبة فاعلة في الميدان، عوض الاستمرار في الحديث عن "تلك النسبة، وذلك العدد" وكأن الرقم مجرد من أي بُعد إنساني حقيقي.

كان هذا حديثي عن الرقم الأول من سلسلة الأرقام التي أريـد إثارة الانتباه إليها في مقالاتي. وفي الطريق إليكم أرقام أخرى سأتقاسم معكم تفاعلي بشأنها، لعلنا نتفق جميعا حول خطورة ما ترمز إليه، ونجتنب السير إلى المجهول.

ويبقى في رأيي، أن علينا أن نعي جميعا، بنفس وطني صادق، وبدون انتهازية مقيتة، وبدون حتى أن يكون هدفنا تحميل المسؤولية لجهة ما، أو الانتقاص من شأنها، أو استثمار أخطاءها بحسابات سياسوية ضيقة، اعتبارا لكون اللحظة التاريخية الوطنية هي بكل صدق استثنائية وتستوجب، أولا، وقف نزيف العجز الإجتماعي، وتجنيب الوطن تبعات التيئيس في واقع شبابي متردي.

وأظن أن ذلك لن يتم إلا إذا أدركنا أن العدمية ستتعزز بفعل تكريس استمرار التحلل العضوي للوظائف المؤسساتية لآليات تدبير الشأن العام، كنتيجة طبيعية لعدم فتـح أوراش بالقدر الكافي والشامل، لحوارات وطنية ضرورية، وعدم اعتماد منطـق التدبير التشاركي في التعاطي مع قضايا مجتمعية كبرى، من خلال إطلاق الطاقات ومجهود إبداع الحلول، لأنها تهم الوطن أجمع، ولا تهم فاعلا حكوميا أو حزبيا بعينه.

ولي اليقين، أن الأرقام السلبية قد تتفاقم مستقبلا، إذا استمر منطق تغييب الكفاءة والاستحقاق في اختيار من توكل إليهم مهـام تدبيرية على درجة كبيرة من الأهمية، في مجموعة من المؤسسات العمومية، باعتماد منطق يُعلي الانتماء الحزبي الضيق ولا يفتـح الباب أمام كل الكفاءات التي يزخر بها الوطن، وتشتغل بصمت وأنفة في كل المؤسسات والإدارات، بالقطاع العام والخاص.

أقول قولي هذا، وأتمنى الرشد والسداد لي، ولكل من "كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيـد".

 *فاعل سياسي ومدني

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى