المواطن

ليتهم يستوعبون أهمية الفعـل الاستباقي في تدبير محاربة الفقر والهشاشة

بقلم: يونس التايب*

مرة أخرى ضرب الإرهاب الغاشم في بلادنا، فعم الغضب و انتفض الناس يشجبون ويستنكرون و يتضامنون. ومضوا يتسائلون ويستفسرون ويحللون. ولعـل ذلك طبيعي لأن مـا وقع كــان له أثـر كبيــر على الأنفس، لثلاثة أسباب على الأقل:

السبب الأول، هو طابع المفاجئة، حيث أننا ظللنا فترة طويلة آمنين ومطمئنين من أثر ما نعلمه من فعالية أجهزتنا الأمنية، بمختلف مكوناتها، و ما نلمسه من صدق مجهوداتها الاستباقية الناجعة، واحترافية أداء رجالاتها الأشـاوس، وجـديـة تحملهم لمسؤوليـاتهـم الوطنيـة، وما أبلوه من بلاء حسن في التصدي لضربات كثيرة كان المغرضون قد أعدوها في الخفاء للنيل منا، في مسار تآمري طويل كان المغرب هدفا له، و لكن الله نجانا بفضله وكرمه.

والسبب الثاني، هو طبيعة الجريمة الإرهابية التي سجلت، لأول مــرة، تفاصيل التمثيـل بالضحايا بشكل مقزز وغير مألوف.

والسبب الثالث، هو اختلاف طبيعة مكـان وقوع الفعل الشنيع عما عشناه في السابق. هـذه المرة لم يكن فضاء الحادث حضريا أو شبه حضري، وإنما كان فضاء قرويا،  وما أدراك ما خصوصية الفضاء القروي في تاريخ البناء الوطني ببلادنا. والحالة التي بين أيدينا كانت هي بلدة "إمليل" التي يعرفها الناس كمكان هادئ وجميل، تحلـو فيه السياحة والاستجمام بالقرب من أناس، تكـاد تنسينا طيبوبتهم وابتساماتهم واقع فقــرهـم الكبير وعــزلتهم الظاهـرة.      

ومن خلال ما طالعت من مقالات وتحاليل تفـاعــل أصحابهـا مع الحـدث، يظهر أن الجميع استنكر الفعل الإرهابي، وتمنى لبلدنا الحفظ في مستقبل الأيام. و قد لفت انتباهي أن التجاذب بشأن أسباب هذه الأفعال الشنيعة، أصبـح أكثـر رشدا، وتجنب أصحابه الحدة و التشنج والانفعال، عكس ما كان يحدث في حالات مماثلة سابقا. ويبدو لي أن ذلك ليس إلا دليلا على وعي مجتمعي حريص على المصلحة الوطنية، ومتفق على رفض أي توظيف للحدث الإرهابي بشكل مُغرض أو سياسوي، أو التعاطي مع تداعياته بمغالاة لاعقلانية، قد تساهم في تشتيت الجهـد الجماعي، و تضيع فرصة التركيز الجـاد على تحليل هذه الظاهرة المقيتة، والانتباه إلى خطر استمرار ظروف معينة، يمكن أن تشكل "بيئة حاضنة" قد تنتج أو "تسهل" حصول أحداث مماثلة في المستقبل لا قدر الله. وهو وعي مجتمعي لا يقبل التهوين ولا التهويل، لأنه إذا كانت يد الإرهاب قد أصابتنا هذه المرة، فهي قد أصابت قبلنا، وفي مناسبات مختلفة، كثيرا من الأمم والشعوب والثقافات والدول. وأن الموقف يستلزم الجدية المطلقة، واليقين الصادق بأن للوطن حماة، عيـونهم لا تنام، يـواجهون بشجاعة تحديات متنامية، بل لنقلها بكل صراحة، هم يواجهون حـروبا ضارية تجري، بالوكالة أحيانا، وبالمباشر أحيانا أخرى، تحت المياه الراكـدة الهادئة بفعل دبلوماسية دولية، ظاهرها يحمل اللطف والمجاملة، و باطنها لا أخلاق فيه و لا قيـم و لا شجاعة، بل جُبن بئيس وحسابات مصالح، و في النهاية لا يهم المغرضين بأي طريقة سيبتلعون مصالح دولتنا الوطنية. 

وإذا كنا مجمعون أن لا شيء بالمطلق يبرر الفعل الإرهابي، و أن لا شيء يمكن أن يسنده من الناحية الشرعية والأخلاقية والإنسانية، نحن بالمقابل مدعوون إلى بحث الظـاهـرة في أبعادها الأخرى، بمجهـود مضاعـف وبدون ملل، ليس لنبحث عن "سبب أوتوماتيكي، إذا توفر ينتج مباشرة الفعل الإرهابي"، بل لمحاولة استنباط خلاصات وتوفير معطيات دقيقة، تكون لنا سندا موضوعيا لنفهم سر ما يحدث، والديناميكيات التي بإمكانها أن تفرزه. 

و من وجهة نظري كمهتم بإشكاليات الحكامة الترابية وتدبير المجال، أرى أن أحد أهم ما يجب أن يسترعي الاهتمام هو تعميق النظر في خصائص "البيئة الحاضنة" والعلاقة الرفيعة بينها وبين "أبناءها" الذين يتم ضبطهم و هم "متورطون في الفعل الإرهابي".

ولعلي لن آتي بجديد إذا قلت أن الفقـر والبـؤس الاجتماعي والثقافي، والتهميش الاقتصادي، هي كلها توصيفات نجدها، كل مرة، حاضرة وصالحة، في مجمل الحالات، لننعت بها البيئة المجالية التي يخرج منها المتورطون في الفعل الإرهابي، نية أو ممارسة. 

و أنا أقول هذا، أشدد على إيماني أن الفقـر والتهميش الاجتماعي لا يلد بالضرورة أفكارا وممارسات إرهابية، وحاشا لله أن يكون الفقراء في بلادي مشاريع "فاعلين مغرضين" أو "حملة أفكار إرهابية". كما ألح على أن ربط الفقر بالإرهاب بشكل أوتوماتيكي، غير صحيح، وإلا لكان المعنيون بالظاهـرة بمئات الآلاف، و لكان الإرهاب قديما قـدم الفقر، و لكان الإرهاب موجودا حيثما كان الفقر. ولكنني بموازاة ذلك، أعتقـد أنالبيئة الفقيـرة التي تعشش فيها جيوب العتمة والعـزلة، والعنف الرمزي، وقسوة العجز المادي، يمكن أن يتفاعل فيها، مع مرور الأيام والأشهر والسنوات، ما لا يمكننا إدراكه وتلمس تجلياته من خارج سياق الحالة السوسيولوجية موضوع البحث.

و اسألوا الفاعلين الجمعويين، الصادقين والمحترفين المهنيين، الذين يشتغلون حول هذا الموضوع، وسيخبرونكم أن ما يحدث في فضاءات الفقر والبؤس الاجتماعي قبيح وسمج، يدمي القلب ويبكي العين، و قد يزلزل النفوس الضعيفة، ويخرجها من سياقات السلوكيات الإنسانية الطبيعية، بشكل يصير مدمرا إذا تقاطع مع مسار فهـم مُغرض لقيمنا الدينية الأصيلة، بفعل شخص دخيل مغرض، أو خائن مندس، أو محرض من وراء شاشة حاسوب من مكان ما في العالم. ويكفي أن تتوفر "كفاءات تواصلية وتحريضية"، ليصير من السهل "إقناع" من يشعر أنه "مقهور" أو "مكبوت" أو "محروم" في هذه "الدنيا الفانية"، أن "النعيم" قد يصبح ملك يديه إن هـو،  بالدارجة المغربية "ترجل" و "غار"، وإن هو "جاهـد" في "كافـر" أو "ضال" ليغير "منكرا". و لا يحتاج المغرض بذل مجهود كبيـر في مسعاه التحريضي، وهو يتحدث إلى من أصبحت بنيته النفسية مخلخلة، و صار عقله غارقا في البؤس الاجتماعي والثقافي والمادي، و أصبح وعيه خارجا عن سياق الزمن الذي يعيش فيه، و بات معزولا عن ديناميكية المجتمع المحيطة به، ليجـد ما شاء من تجليات في الحياة العادية والطبيعية، المقبولة اجتماعيا، وغير المنافية للمعلوم من الدين بالضرورة، و يقوم بإلباسها توصيفات "الزندقة" و"الكفـر" و"الضلال"، بشكل لا علاقة له بمعاني تلك التوصيفـات، ولا بما حملته سياقاتها تاريخيا، ولا بدلالاتها الشرعـية، إلا ما كان من تأويلات واستنباطات لا علاقة لعلماء الأمة، المعتد برأيهم، بها لا من قريب ولا من بعيد.

ومن هذا المنطلق، وأمام حقيقة وضع أزمة اجتماعية متكلسة في جيوب فقر وبؤس مذقع، حضرية وقروية، أعتبر أن لا معنى أن يظل الفعل الاستباقي خاصية تتميـز بها المصالح الأمنية لوحدها. هي مشكورة على ذلك، ونحن ممتنون لها، و هي بدون شك قادرة على أن تستمر في مجهودها باجتهاد وتجديد وابتكار، وستستمر في ذلك. لكنها، بالمقابل تنتظر منا دعما قويا فيما هو ليس من اختصاصها، و في كل ما تقدر عليه قطاعات عمومية أخرى عليها أن تعمل وتفي بمسؤولياتها.

و الواجب يقتضي إذن وبكل سرعة، أن تنخرط في هذا السلوك التدبيري "الاستباقي"، كل المصالح الحكومية المعنية بتقديم الخدمات الاجتماعية على اختلاف أنواعها، و المؤهلة للقيام بالوساطة الاجتماعية، لفائدة مواطني هذا البلد، خصوصا منهم الفقراء والمهمشون ماديا ومجاليا، حتى تتمكن من اقتحام فضاءات العتمة والغوص في أحزمة البـؤس، و تطوير آليات فعـل اجتماعي تأطيري هـادف ومحتـرف، يقوم على مرتكزات أساسية، منها:

– تهيئة شبكات حماية اجتماعية تشتغل بالقرب من الناس،

– العمل على الإلمام بمشاكلهم و رصد أسبابها، 

– تحديـد مداخل لمعالجتها، بمقاربة تشاركية معهم وإلى جانبهم، 

– إعداد جذاذات و ملفات تقنية بشأنها، 

– الترافع بخصوصها، 

– ترتيب أوجه التدخل الناجع لحل تلك المشاكل بأسلوب استباقي وعاجل.

– إلخ…

ويبقى العرض من كل هذا، هو تكسير ديناميكية تفاعل كيمياء البـؤس والعـوز والجهـل والتهمـيـش، وقطع الطريق على بزوغ "ذئب منفرد"، اختل توازنه وانفصل عن انتماءه المجتمعي المباشر، و قد "يتحرك" في أي حين و على غفلة من الجميع.

 

في مقالات سابقة كنت قد انتقدت الركود الذي ألاحظه في أداء الفاعل الحكومي، وإمعانه في "كسب الوقت" بمنطق حزبي ضيق، على قدر إمعانه في "هدر الوقت/الزمن السياسي" بمنطق  (اللا) مسؤولية الوطنية، والمغالاة في صرف نظر الرأي العام عما يهم الناس بالأساس، و افتعال مشاكل لا ضرورة منها، للتغطية على العجز عن إبداع فعـل تدبيـري مُبتكـر ومُجدد، يَسهُـل به التعاطي مع المشاكل المستجدة في مجتمعنا. 

وأنا هنا أعتبر أننا إزاء مفارقة صادمة عندما نرى بعض الفاعلين الحزبيين، ممن هم مشاركون في حكومة "هدر الزمن السياسي وإطفاء شعلة الأمل"، ينوهـون بالاستراتيجية الاستباقية التي تتميز بها الأجهزة الأمنية الوطنية، ونرى في الوقت ذاته أن نفس الفاعلين الحزبيين يشرفـون على تدبير قطاعات حكومية، بكل فروعها و تلويناتها ومجالات تدخلها، و لا زالوا عاجزين عن فهم المعنى الحقيقي لمستلزمات الفعل "الاستباقي". والمستغرب أن نعرف أنهم يعلمون بوجود فعل تدبيري "استباقي"، انخرطت فيه أجهزة مسؤولة من أجهزة الدولة الوطنية، وهم في قطاعاتهم، خصوصا تلك المهتمة بالشأن الاجتماعي، لا زالوا غير آبهين حتى بتوفيـر أبسط شروط  "فعل تدبيري عادي وسليم". 

 كيف إذن لا نغضب و لا ننتقـد بشراسة واقع تدبير الشأن العام من طرف الفاعل الحكومي، ونحن نجد القائمين عليه، إلى ساعتنا هاته، لم يستطيعوا الانتهاء من ورش التحديد الدقيق للمجالات الجغرافية التي وصلت بها العتمة والبؤس الاجتماعي والفقر مستويات غير مسبوقة؟ و لا هم استطاعوا أن ينجزوا تشخيصا خرائطيا وموضوعاتيا بأبعاد سوسيولوجية و اجتماعية وثقافية وديموغرافية ومؤشرات نفسية وتربوية رصينة؟

وكيف لا نتأسف ونحن لم نر أو نسمع عن خطط عمل، يمكن أن نسميها "استباقية"، ترتكز على هندسة فعل تدبيري محدد الأهداف والوسائل، يقتحم معاقل الفقر والعوز بمقاربة اجتماعية احترافية ورحيمة، تحتضنها ثقة الناس وإحساسُهم بصفاء نية الفاعل العمومي؟

 

وكما أنني اعتبرت، في مقال سابق، أن إضاعة الوقت و"إبطاء إيقاع تدبير الشأن العمومي"، هو بالمطلق فعل شاذ وغير أخلاقي، بمعيار قيمي أساسه المصلحة الوطنية؛ فإنني أعتبر، أيضا، أن استمرار الفاعل الحكومي في التعاطي مع ظاهرة الفـقــر والعــوز بمنطق تقليداني، والحرص على ألا تتحرك الأمور، في أي مؤسسة عمومية، إلا بعد الاطمئنان أن "المدير من حزبي" و أن "مناضلي حزبي سيستفيـدون" وأن "الجمعيات التابعة لحزبي ستستفيد"، أمر يستوجب من كل العقلاء طرح السؤال الملح والذي يتجنب الكثيرون طرحه : أيهما نخدم عندما نكون في موقع المسؤولية العمومية؟ الوطن والمواطنين عموما ؟ أم الحزب والعشيرة ؟

ولعل التذكير ينفع من لا زلنا نأمل أن يظهر منهم خير لعامة الناس، أجدد التنبيه إلى أن وطننا محور تجاذبات قوية، وهو مستهدف من طرف عدة جهات لا ترغب في أن نحقق أي تقدم اقتصادي واجتماعي وثقافي، ولا أن يكون المغرب فاعلا في الساحة الإفريقية أو العربية أو الدولية، ولا أن يجلب استثمارات خارجية، ولا أن تكون له سياسة خارجية حكيمة تنحو نحو السلم وتدافع عن القضايا العادلة، ولا تتورط في نزاعات مبعثها اختلاف عابـر وظرفي في وجهات نظر بشأن مواضيع أو مصالح معينة.

فحذاري حذاري من استمرار منطق التشويش والتسفيه والعدمية وازدواجية الخطاب. نحن في ظرف تاريخي استثنائي، يجدر بالجميع أن يحسم فيه أمره، وأن يختار بين انتماء صادق و وطني مغربي، وبين شيء آخر… أو مشروع شيء آخر…

وليس للانتماء إلى الوطن من باب آخر غير باب الإحساس الصادق بثقل المسؤولية العمومية، والتعاطي مع الأمانة بما تستحق من تفان وتجرد ونـزاهـة، وصدق في القول، بانسجـام مع الفعـل، وإخلاص النية في الظاهـر والباطـن. والله ولي التوفيق. 

*فاعل سياسي ومتخصص في الحكامة الترابية

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى