دراسة: هكذا نبذ القرآن الكريم مشاعر “اليأس والقنوط” و”الأوهام والوساوس” عند نزول الأوبئة
الدار/ خاص
في إطار مواكبة موقع “الدار” لمستجدات تفشي فيروس “كورونا” المستجد” كوفييد19″، ونهوضا من الموقع بدوره الاعلامي في تحسيس وتوعوية المواطنين بأهمية الوقاية والالتزام بالحجر الصحي لتجاوز هذه الظرفية الاستثنائية التي تعيشها المملكة والعالم أجمع، يوصل موقع “الدار”، عبر صفحة “دين وحياة” نشر عدد من المقالات العلمية لباحثين وباحثات تتناول المنهج الرباني والنبوي في التعامل مع الأوبئة والأمراض المستجد.
وفيما يلي دراسة للأستاذة فاطمة الزهراء الناصري، الباحثة بمركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء تتناول فيها المنهج القرآني في محاربة اليأس والوساوس في زمن الأوبئة والأمراض المستجد كوباء “كورونا” المستجد.
من أهم المقاصد القرآنية حفظ الكيان الإنساني عامة[1]، ومن أهم مقومات ذلك حفظ التوازن النفسي للإنسان من الاختلال أو الانهيار، ولأن وقائع الحياة يمتزج فيها الخير والشر، فإن سوء تلقي وتدبير الإنسان للمصائب ولوسائل التعامل معها وتجاوزها، قد يكون مبعث اضطرابات نفسية، ومن بين المصائب التي تشترك فيها البشرية اليوم “الخوف”؛ ﴿لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾[محمد/4] الخوف من المرض، الخوف من نقص الثمرات، والخوف من الحروب، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة/155] لأن الأمن الروحي والغذائي من أكبر النعم الإلهية التي يرفل فيها الإنسان ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش/4].
ومن التداعيات النفسية “للخوف” بشتى أنواعه “اليأس والقنوط”، و”الأوهام والوساوس”؟ فكيف يستطيع الإنسان تجاوز مثل هذه الاضطرابات والحفاظ على توازنه النفسي من خلال توجيهات الوحي؟
1- نبذ مشاعر اليأس والقنوط في القرآن الكريم:
قال الراغب الأصفهاني: “القنوط اليأس من الخير يقال قَنَطَ يقنط قُنوطا، وقنط يقنَطُ: قال تعالى: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ﴾[الحجر/55] ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّون﴾ [الحجر/56]، وقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر/53]، ﴿وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ [فصلت/49]، ﴿وإذا هم يقنطون﴾[الروم/36] [2].
بين ابن ظفر الصقلي في تفسيره “ينبوع الحياة” كيف نفى نبي الله إبراهيم عليه السلام أن يكون من القانطين، قال رحمه الله: “﴿قَالُوا بَشَّرْنَاك بِالْحَقِّ﴾، أعلموه أن هذه البشارة من عند الله ﴿فَلَا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ﴾؛ هذا كأنه استبعد أن يولد له وهو ابن مئة سنة، وامرأته عقيم عجوز، قبل أن يعلم أنهم رسل الله، والقنوط اليأس، ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ﴾ أنكر أن يكون قَنَط من رحمة الله[3].
ونفى محمد الأمين الشنقيطي كذلك أن يكون القنوط قد ساور نبي الله إبراهيم عليه السلام، قال رحمه الله: “ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من قدرة الله، قول الملائكة له فيما ذكر الله جل جلاله عنهم: ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاك بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ﴾[الحجر/55] بدليل قوله: ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ﴾[الحجر/55]، دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ولا قانط…فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق، وبين أن هذا المعنى قاله أيضا يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم لابنيه في قوله: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[يوسف/87]، قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ﴾ الآية، روح الله رحمته وفرجه وتنفيسه”[4].
وقد سطر الطاهر بن عاشور كلاما دقيقا-في هذا السياق- يجمع بين ضرورة الأخذ بالأسباب استجابة لسنة اللهجل جلاله، والإيمان بقدرته الواسعة التي تتجاوز الأسباب، قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾: “تعليل للنهي عن اليأس،…والمعنى: لا تيأسوا من الظفر بيوسف عليه السلام، معتلين بطول مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة، فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيأ لها أسبابها، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يحيل مثل ذلك، فحقه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره، وأما القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها”[5].
ومن بين السياقات التي ورد فيها النهي عن القنوط واليأس في القرآن الكريم الموارد الآتية:
– النهي عن القنوط بعد نزول المكاره: فقد ذم القرآن الكريم نوع الناس الذين يصابون بالقنوط حال نزول الشر والمكاره، قال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نـزعْنَاهَا مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُور﴾ [هود/9-10-11]، وقال: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾ [الإسراء/83] ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ [فصلت/49].
– النهي عن القنوط بعد طول الحرمان: يؤسس له قوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف/87]، وقوله جل جلاله: ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاك بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر/55-56]، واللطيف أن الآيتين تتعلقان بالحرمان من الولد، إما بالفقدان أو بالعقم.
– النهي عن القنوط بعد طول العصيان: ويؤسس له قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر/53]، وتعززها جميع الآيات الدالة على سعة رحمة الله للمذنبين وقبوله توبة التائبين.
ولأن أغلب الاختلالات النفسية قد لا يشعر بها الإنسان إلا بعد بلوغه حالات متقدمة من الانهيار النفسي، حاول القرآن الكريم قطع دابر جميع المشاعر السلبية بمجموعة من التدابير الوقائية[6]، ولأن اليأس والقنوط قد يؤدي إلى الانتحار في أقصى تجلياته نبذه القرآن الكريم بقوة، ودعا بالمقابل إلى التفاؤل في العديد من الآيات الدالة على التعلق بفرج الله جل جلاله ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح/5-6]، وإلى الطمع في رحمته غير المتناهية ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف/155].
2- دعوة القرآن إلى تجنب الأوهام والوساوس:
قد يكون من عوارض اشتداد حالة “الخوف” هجوم الوساوس التي تقهر روح الإنسان وتؤذيه أيما أذى، وفي هذا الظرف الصحي الموبوء سجلت الكثير من الحالات التي أدى بها الوسواس المرضي إلى الشعور بنفس أعراض الإصابة بفيروس “كورونا”، ليثبت الفحص الطبي أنها مجرد أوهام نفسية وليدة الخوف من المرض، لذلك لم يكن عبثا أن تكون المعوذتين من الأذكار القرآنية اليومية التي على المسلم تحصين نفسه بها من جميع الشرور بما فيها ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾[7] [الناس/5-6]، وقد ذكر ابن الجوزي القول الرابع في تفسير قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه﴾[البقرة/286] “أنه أحاديث النفس ووساوسها”[8].
ومن أهم أسباب تسلط هذا الاختلال على نفسية الإنسان، عدم استيعابه لقانون الكون القائم على لزوم الأخذ بأسباب الوقاية، وترك ما يمكن أن يقع من قضاء وقدرا للمدبر الحكيم، فليس من واجب الإنسان حمل هم النتائج حتى يصير في دوامة من الخوف ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[التوبة/51]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك ….، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف”[9]، وهو ما لا يدع المجال لأدنى طائف من الوسواس أن يكدر حياة الإنسان!
إن الحياة لا تصفو إلا بالظن الجميل؛ فمن عاش متوهما أن القادم أسوأ فهو يعيش في الأسوأ الذي قد لا يأتي، قال الكندي: “فإن حَزنا قبل وقوع المحزن؛ كنا قد أكسبنا أنفسنا حزنا لعله غير واقع بإمساك المحزن عن الأحزان، أو بدفع الذي إليه دفعه عنا، فكنا أكسبنا أنفسنا حزنا لم يكسبناه غيرنا”[10]، وقد ذم سبحانه وتعالى الركون إلى الظن الذي لا أساس له في جميع مجالات الحياة ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة/77].
والإنسان الذي يكون ضحية الوساوس والأوهام، إذا أصيب في بدنه صعب علاجه لاقتناعه بأنه لا أمل في السلامة والنجاة، وأنه لا مفر من وقوع المكاره، ولا يحمل الأمور إلا على وجه السوء، وهو ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”[11]، لأن التوهم يجعل فكر الإنسان لا يستريح أبدا، ولا يَفتأ يُتقاذف بين الوساوس وظنون السوء، وهي حالة نفسية مما يعتري المنافقين كما وصف القرآن الكريم: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾[المنافقون/4].
وإنما على الإنسان المسلم استحضار رحمة الله عندما ينزل الشر، فيستمطر الفرج باسمه اللطيف، ويتضرع إليه باسمه الرؤوف، ويمتثل لسنته الكونية في الأخذ بالأسباب في الوقاية والعلاج، ويستجيب لدعوته في التضامن والتآزر الإنساني عند الكروب.