سلايدرعلوم وتكنولوجيا

هل حقاً فشلت التكنولوجيا في مواجهة وباء كورونا؟

بظهور فيروس كورونا المستجد (Covid-19)، في ديسمبر من العام الماضي، لم يُعِر الكثيرون اهتماماً للأمر، ولم يشعروا بالقلق حياله، اعتقاداً منهم أن زمن الأوبئة قد وَلَّى، وأنه من المستبعد رؤية موجات فتك بالبشر مماثلة لتلك التي حدثت في القرون الخالية، وذلك بالرغم من تحذيرات الخبراء في السنوات والعقود الماضية. كيف لا ونحن في زمن العلوم والتكنولوجيا وما نشهده من فَلَتَات لم تحدث قطّ في التاريخ الإنساني، أو هكذا خُيِّل للجميع في البداية.

مرت الأسابيع وبدأ الشك يتسلل للنفوس، حيث فُوجِئ الناس بضعف الإنسان الملحوظ في مواجهة الوباء، ونالت التكنولوجيا حصة الأسد من الانتقادات، حيث كان الجميع ينتظرون لمسة سحرية تكنولوجية تؤدي إلى فعل شيء ما يقضي على الجائحة، ما شكَّل صدمةً لقطاع عريض من المتابعين، فهل خيّبت التكنولوجيا الآمال؟

التكنولوجيا في مواجهة كوفيد-19

في الحقيقة، الكلام عن إخفاق التكنولوجيا غير معقول تماماً، فحتى قبل ظهور الوباء كان الذكاء الاصطناعي في الموعد، حيث إن أول تحذير اُطلِق ضد الفيروس وخطره المحدق كان من قِبل أداة ذكاءٍ اصطناعي لشركة كندية ناشئة، ليتكرَّر ذلك من أدوات أخرى. كما أنه وبتحليل الذكاء الاصطناعي للبيانات استطاعت الصين الوصول إلى التسلسل الجيني للفيروس خلال شهر واحد، مقابل أشهر عديدة لفيروس الوباء السابق سارس (SARS). واستعملت كذلك كوريا الجنوبية تقنيات الذكاء الاصطناعي لتطوير أجهزة لفحص المشتبه بإصابتهم، بعد أن كان يتطلب ذلك شهوراً من العمل المتواصل.

هذا، ودأبت شركات التكنولوجيا عبر العالم منذ البداية على التفكير في المساهمة في وقف الوباء وتحجيم آثاره. حيث تداولت الصحف أخباراً عن تطوير العديد من الأدوات التكنولوجية الرقمية (Numerical technology)، فرأينا تطوير تطبيقات مبتكرة وُضِعت تحت الخدمة من أجل تحقيق أهداف الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي.

ولم تتأخر شركات التكنولوجيا الكبرى في تقديم حلولها في مواجهة الوباء، حيث عملت جوجل وآبل على محاربة المعلومات المغلوطة بغلق مخازنها أمام تطبيقات كوفيد-19، ما لم تَصدر عن منظمة صحية أو جهة حكومية، وقطع الطريق أمام الانتهازيين الباحثين عن التربّح، بالإضافة إلى تطوير مشترك لأدوات تتبع انتشار الوباء بتقنية البلوتوث. فيما قالت فيسبوك إنها تعمل على ضمان وصول أي مستخدم لمعلومات صحيحة تخص كوفيد-19، وقد لاحظ الجميع عند فتح صفحاتهم ظهور تبويب يعرض آخر مستجدات الوباء الرسمية، كما أكدت أنهم يعملون على حذف الادعاءات الكاذبة ونظريات المؤامرة المرتبطة بالفيروس. وذكرت تويتر أنها تعمل على رفع ونشر المعلومات الصحية الموثوقة قدر الإمكان. وقالت أمازون إنها تتابع المنتجات المعروضة، وسبق أن قامت بحذف مليون منتج قدم أصحابها ادعاءات كاذبة مفادها فاعلية هذه المنتجات في التصدي للفيروس. فيما أطلق مؤسسا إنستغرام موقعاً لتتبع انتشار كوفيد-19، بحساب معامل تكاثر الفيروس (The effective reproduction rate) للسماح بتتبع الفيروس وسرعة انتشاره.

لم تتوقف المساهمات على التكنولوجيا الرقمية فحسب، بل شهدنا تطوير واستعمال العديد من أنظمة إنترنت الأشياء (Internet of things) والنظم الفزيائية السيبرانية (Cyber physical systems) عامة. حيث استُعملت السيارات الذكية في الصين لنقل المرضى، ولتوصيل الطلبات تفادياً للاحتكاك. كما لعبت أنظمة الكاميرات الحرارية التي تتعرف على الوجوه في الصين وكوريا دوراً كبيراً في الكشف عن المسافرين في محطات النقل العمومية الذين يعانون من أعراض مشبوهة. هذا واستُعملت الطائرات بدون طيار بدلاً من العمال في الصين لتعقيم السيارات والمباني والأماكن العامة، تلافياً لخطر إصابتهم، وكذلك لفرض تطبيق الحجر الصحي.

فيما اختبرت أمريكا استعمالها للمساعدة في تحديد الانتهاكات المحتملة للتباعد الاجتماعي، وكذلك اكتشاف أعراض كوفيد-19 كالحمى، ومعدلات ضربات القلب، والجهاز التنفسي من مسافة بعيدة، بل ولكشف الأشخاص الذين يعطسون ويسعلون، وما مدى التزامهم بالتوصيات. واستُخدمت الطباعة ثلاثية الأبعاد في إنتاج الكثير من القطع والأجهزة المختلفة، خاصة أجهزة التنفس في إيطاليا وفرنسا. أما عن الروبوتات فقد تزايد استخدامها عبر العالم لأغراض متنوعة تصبُّ كلها في جهود التصدي للفيروس.

وكل ما ذُكِر آنفاً كان عينة فقط، حيث مازلنا نشهد يومياً اختراعات ومساهمات تتصدر الصحف العالمية. أما عن الحديث أن التكنولوجيا كانت حاسمة في احتواء الوباء في آسيا، خاصة في الصين وكوريا الجنوبية، بينما لم تكن كذلك في الدول الغربية، فذلك راجع لعدة أسباب، أهمها انضباط الفرد هناك وثقته المتينة بحكامه، المستمدة من ثقافتهم البوذية الكنفوشية، بالإضافة إلى أن الحريات الشخصية المقدسة في الغرب المادي لا يُنظَر إليها بنفس العين في آسيا. وقد لوحظ ذلك عندما طُبقت إجراءات المراقبة الرقمية في الصين وكوريا بانتهاك خصوصياتهم، فلم يطرح ذلك أي مشكلة، على العكس من الدول الغربية حيث توجد قوانين صارمة تعيق ذلك.

فهل يصح بعد هذا الكلامُ عن إخفاق التكنولوجيا وروّادها؟

لِمَ كانت التكنولوجيا هي المُستهدفة؟

في الحقيقة، ما حدث أنه وفي خضم الانفجار بأعداد المصابين والذعر الذي صاحبه، نسي الجميع ماهية التكنولوجيا ودورها الحقيقي في حياتنا، ويبدو أن شيوع الاستعمال المترابط لمصطلح “العلوم والتكنولوجيا” قد خلط المفاهيم، فأصبح التفريق بينهما صعباً. وللتذكير، فالعلم هو مجموعة من المعارف المتحقق منها، بينما تمثل التكنولوجيا عملية تحويل المعارف إلى أشياء مادية أو معنوية. بتعبير بسيط: العلم يهتم بالاكتشاف، في حين تُعنَى التكنولوجيا بالاختراع.

الجميع يتفق، وعلى رأسهم منظمة الصحة العالمية، أن إنتاج لقاح فعّال وآمن هو الذي سيعيد الأمور إلى طبيعتها. ومما سبق نرى أن الإخفاق إلى الآن علمي وليس تكنولوجياً، فالعلم هو المَنُوط بذلك الدور، بينما تلعب التكنولوجيا دور المساعد في كبح جماح الجائحة، وسيبقى القضاء عليها مؤجلاً ما لم يُدلِ العلم بدَلوه في القضية.

هذا الإخفاق كان بسبب إهمال العمود الفقري للعلم، ونقصد بذلك البحث العلمي النظري (Theoretical research). هذا الأخير الذي لا يرتبط بمشاكل آنية، لأن هدفه الأساسي هو تطوير وتحسين المعارف العلمية المتاحة في حقل علمي ما، بغضّ النظر عن إمكانية تطبيقها، ومثال على ذلك دراسة الفيروسات. فتم تضييق الخناق على هذا النوع من البحوث تدريجياً منذ عقود، حيث شَحَّت الموارد المادية والبشرية الموجَّهة إليه، لأنه غير مُجْدٍ للرأسمالية الحديثة التي لا تبحث إلا عن الإنتاج والتربُّح، فأدى ذلك إلى الفوضى التي نشهدها اليوم، فقد لاحظ الجميع منذ ظهور الوباء تناطُح الفرضيات والدراسات المتعلقة بالفيروس، حيث اتضح أن طريق إنتاج لقاح مازال طويلاً وشائكاً، بل إن عالم الفيروسات الفرنسي ديدي راوولت (Didier Raoult) وصف التعويل على إنتاج لقاح بالرهان الغبي، حيث لم يُطوَّر أي مصل فعّال ضد أيِّ من فيروسات عائلة كورونا حتى الآن. وحتى تقديرات الخبراء ومنظمة الصحة العالمية تتحدث عن اثني عشر شهراً في أحسن الأحوال.

بالموازاة، أسهم السباق العالمي المحموم في الإبداع التكنولوجي، والذي صاحبه الكثير من البروباغندا الدّعائية للشركات الكبرى بهدف عَوْلَمِي رِبحي (Globalization 4.0 positioning)، في تضخيم دور التكنولوجيا، لتشمل كل مناحي حياتنا وتفاصيلها الدقيقة. فتقدّمت التكنولوجيا حتى أكثر مما كان متوقعاً بسبب التمويلات الضخمة التي استفادت منها، ومن يشاهد أفلام الخيال العلمي لثمانينات وتسعينات القرن الماضي يرى أننا نعيش في حاضر ما كانت تصوره هذه الأفلام على أنها تكنولوجيا الألفية الرابعة. ونتيجة لذلك أطلق العنان للغرور البشري الذي يسري في دمائنا بالفطرة، وتكرست فكرة أن التكنولوجيا هي الخلطة السحرية لكل مشاكل العالم.

في النهاية، يمكن القول إن التكنولوجيا قد أسهمت بشكل كبير في الحد من انتشار الوباء، بل نجحت حتى في تحييده في دول معينة، لكن المشكل علمي بالأساس، وفي انتظار ما سيجود به العلم بإمكاناته الحالية، يجب علينا دق ناقوس الخطر، وحثّ الدوائر العلمية والحكومات على الالتفات للأمر، وإعادة النظر في استراتيجيات البحث العلمي وتمويلاته، بعد استخلاص الدروس من أزمة كورونا، وهذا حتى لا نشهد المزيد من التقهقر العلمي مستقبلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى