غير مصنف

الله مَوْجُود أيضاً في باريس

صلاح بوسريف 

أميل، دائِماً، إلى حرِّيَة الأشخاص، وإلى ما يختارونه من سلوكات وطِبَاعٍ، لا تُجافِي القِيَم، أو تتعارض معها، حين تكون قِيماً تضمن صيرورة المجتمع، وتحميه من الضياع والتلاشي، أو فساد في الطبيعة وأخلاق الناس. كما أمِيل إلى حرية الفكر، والمُعْتَقَد، وإلى حرية العيش والحياة بالطريقة التي يَرْتَضِيها الإنسان لنفسه، لكن، لا بُدَّ من وضع الأمور في سياقها، حتَّى لا نُضَبِّبَ الأفكار ونُغَيِّم ما كان مُفْتَرَضاً فيها من وضوح وشفافية. 

فما دار من نقاش بصدد برلمانية «العدالة والتنمية»، في سفُورِها في باريس، وظهورها بغير المظهر الذي تظهر به أمام المغاربة، لم يكن يتعلَّق بحريتها الشخصية، بل إنَّ الحزب الذي تنتمي إليه، وما يحمله من أفكار ومُعْتَقدات، في ما يتعلَّق بالشأن الديني، هو ما جعل من النقاش يكون بالمستوى الذي جرى به، أو ما قد يكون بَلَغَه، في بعض الأحيان، من شطط واستهتار.

فأن تظهر هذه السيدة، هنا، بالحجاب، وأنا أستعملُ كلمةَ حجاب تجاوُزاً، وتظهر بصورة المرأة التي تتقي الله، وتَأْتَمِر بأوامره، وفق فهمها للنصوص، كما يجري تأويلها من طرف الجماعة التي تنتمي إليها، وتظهر هناااالك، في باريس «مدينة الجن والملائكة»، كما سمَّاها طه حسين، سافرةً، أو بما لم يعْتَدْها الناس عليه، ممن عرفوها بهذا المظهر [الوَرِع التَّقِيّ!] الذي به خرجت تَسْتَجْدِي رُفْقَة حزبها أصوات الناس باسم الدين، وباسم الشريعة، وباسم الله، وبصورة الحجاب الذي اسْتَعْطَفَتْ به البُسطاء من الناس، باعتباره صورةً لِما ينبغي أن تكون عليه المرأة المُسْلِمَة النزيهة التي تعمل بشرع الله، وبه تحكم، وتُحارب المنكر والزُّورَ والبُهْتان، فهذا ما لم يقبله، لا عموم الناس ممن رأوْها سافِرَةً، ولا من انتقدوها من السياسيين، ومن غيرهم ممن اتَّخَذُوا من صُوَرِها موضوعاً لتدويناتهم، لأنَّ ما كانتْ عليه هناك، وما هي عليه هنا، هو نِفاقٌ وتَدْلِيس، وضَحِك على الذُّقُون، لأنَّ الله موجود أيضاً في باريس، وفي ساحة الباستيل التي لا أعرف هل برلمانية العدالة والتنمية تعرف تاريخها، وأنها كانت بداية شُعْلَة التَّحرُّر والتنوير في فرنسا، وبداية ما ستُقَرِّرُه فرنسا لاحقاً من توجُّه عَلْمانِيّ، هذا التوجُّه الذي تعتبره هذه السيدة وحزبها كفراً ومُروقاً وانْحِرافاً عن الدين، كما يَتَّهِمُون بذلك من آمَنُوا بهذا الفكر، ونادَوْا به، هنا في المغرب، وفي غيره من بلاد الله العربية.

كثيرات هُنَّ المغربيات اللواتي يُعَرِّين رؤوسهن في باريس، وفي غيرها من بلاد النصارى، ويَسِرْن حَسِيراتُ، بلا أدْنَى حَرَجٍ ولا هَرَجٍ، لكن هؤلاء لا حُجَّةَ عليهن، لأنهن لسن برلمانيات، ولا هُنّ تَسَمَّيْن بالورع والتَّقْوَى، ولا بغيره من كليشيهات التديُّن الذي هو فِتْرينَةُ الدين فقط، وليس هو الدِّين، كما يعرفه المغاربة، دين يُسْرٍ، وليس دين عُسْر. 

هؤلاء، لا يَهُمُّنِي شأنُهُنَّ، لأنهن غير موجودات في حياتنا العامة، ولا يدَّعين أنهن يدافعن عن الدين باسم حزب، أو عقيدة، أو عن الشعب، في ما الشعب يَئِنُّ من قرارات الحزب الذي تنتمي إليه، بما ألْحَقَه من ضرر بالفئات البسيطة من الناس، في خبزهم ومالهم ومائهم، بل يهمني شأن من يُغَيِّر أقنعته، كما يُغيِّر البحر ألوانه، ويدّعِي الإيمان والورع، فيما هو بعيد عن كل هذا، لأنه عنده ليس سوى وسيلة للوصول إلى السلطة، وهذا ما بات ظاهراً يعرفه جميع الناس، في ما حدث من فضائح كانت حديث القاصي والدَّاني، كما يقول عامة الناس، وكلها جاءت من أشخاص قياديين داخل هذا الحزب، ومن فقهاء كانوا يفتون في شأن الدين، ويرون في المرأة عورة ما لم تَحْتَجِب، فبدا أن العَوَرَ كما يفهمونه، غير ما عرفْناه.

الدين ليس بضاعةً، مهما استعملتموه بهذا المعنى، كما أن الإنسان، مهما خذلتم ثقته فيكم، فهو سيبقى ذلك الإنسان المؤمن الذي لن يُلْدَغَ من الجُحْر مرتين. وهذا ما جرى مع من تَوَلَّوْا السلطة قبلكم، وكانوا في مواقع القرار، فالدرك الأسفل لكل من يظن أن الشعب جسراً للعبور إلى الغنى والرفاه، وكسب المال بالدِّين، كما صرَّح بذلك كبيركم الذي لم يعد أحد يرى في كلامه غير التُّرهات، وسفاسف الكلام، لأن من كذب مرة، يكذب مرَّات، أو كما جاء في المثل الفرنسي، من سرق بيضة، سرق بقرة، لأن السرقة هي نزوع نحو اختلاس حاجات الآخرين، بغير حق، وما أنتم فيه من سلطة، بات اختلاساً لذمم الناس، وما وضعوه فيكم من ثقة، فَتَنَحَّوْا قليلا، لنرى الشمس، وافعلوا ما شئتم، فإن الله يراكم، هنا، كما رآكُم هناااالك في باريس، حيث الملائكة والشياطين. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 + 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى