كيف ربط القرآنُ الجَمالَ بالتوحيد؟
إذا كان الإسلام يمثل أكمل المراحل في تاريخ الديانات مصداقا لقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [سورة المائدة/الآية: 4] فإنه دين الشريعة العادلة المنظمة لعلاقة الإنسان مع الآخر والعالم، ودين عقيدة سامية بنيت أحكام وأحوال التوجه إلى الله ومحبته ومعرفته، ودين أخلاق لما دعا إليه في أحكامه وعقائده من ضرورة التمسك بقيم الفضيلة والتسامح والرحمة، ودين جمال لأنه أرشد في كل ما سبق إلى الإتقان والإحسان والإجادة.
ويعد القرآن أعظم مظهر نتلمس فيه مظاهر هذا الكمال الجمالي، إذ نظمت معاني ألفاظه في صورة بيانية فاقت كل ألوان وصور الجمال المعبر عنه في الأكوان، فكان كتابا معجزا.
ولا غرو أن يكون هذا وصف القرآن العظيم لأنه كلام الله، وهو صفته، ومن صفاته وأسمائه "الجميل"، وترك تعالى الإخبار عنه بهذه الصفة لأكمل وأجمل هيكل بشري في الوجود ألا وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق وغمط الناس"[1].
وفي مثل هذه الأحاديث النبوية الشريفة من المعاني ما لا يعد ولا يحصى، لأن المتكلم صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيح الكلم وجوامعه، فقد ربط عليه الصلاة والسلام جمال الله تعالى بالحديث عن جمال الإنسان، وهو ربط معرفي عميق، إذ الإنسان هو أعظم صورة ومثال لتجلي الجمال الإلهي.
ولقد أخبر الحق تعالى عن هذه الحقيقة بقوله تقدس اسمه: (الله الذي جعل لكم الاَرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) [سورة غافر/الآية: 64].
وزاد صلى الله عليه وسلم في بيان هذا المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته"[2].
فالمعتقد الصحيح بالنسبة لهذا الحديث إذا كان الضمير في "صورته" يعود إلى الله تعالى، أن الله تعالى منزه عن الخلق مباين لهم، متعال عن الكيف والمثال عز اسمه وتقدست صفاته، وإنما المراد كما ذهب إلى ذلك الحافظ بن حجر فيما رواه عن بعضهم أن "المراد بالصورة الصفة، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر، وإن كانت صفات الله لا يشبهها شيء"[3].
وإلى ذلك ذهب الإمام الشعراني، إذ قال: "وإنما المراد به صورة الأفعال والأخلاق مع تباين الحقائق، فإن الله تعالى جعل لآدم وبنيه الأمر والنهي، والتولية والعزل بإذن الله عز وجل، إذ الصورة تطلق ويراد بها الشأن والأمر، والحكم"[4].
وهكذا تتبدى معاني المعرفة الإلهية في هذا الهيكل الآدمي الذي هو بنيان الرب، إذ هو الصورة التي رسمت عليها عظمة هذا الخالق، وظهر فيها جماله تعالى.
وبذلك نفهم سجود الملائكة لآدم عليه السلام، فقد ربط الله تعالى بين الخلق والتصوير المتعلق بالإنسان، وأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، في قوله عز اسمه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اِسجدوا ءَلادم فسجدوا) [سورة الاعراف/الآية: 10].
فسجود الملائكة هو خضوع لأمر الخالق المصور الجميل، إنه شهود الجمال الإلهي في هذا المظهر العجيب الذي هو آدم أبو البشرية.
ولأجل ذلك جعله الله تعالى خليفة في الأرض، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة) [سورة البقرة/الآية: 29]. والخليفة كما هو معلوم آية المستخلف، وإذا كان من أوصافه تعالى أنه جميل، فلا يمكن أن يكون هذا الخليفة إلا جميلا، لأنه الدال على صفة الجمال الإلهي، فمن رآه عظم اللهَ الجميل، وأثنى على جميل صفاته ونعوته.
إن هذا المعنى يتجاوز الرسوم والحدود والمحسوس، إنه الشعور الباطني العميق الذي تشهده الروح، فتشاهد صور الجمال وتدرك بعين الحقيقة والبصيرة معاني الجمال الإلهي الظاهر في العوالم.
الجمال في الذِّكر الحكيم
ولقد ارتبط إطلاق الجمال في القرآن الكريم بآية من أعظم آيات الله في الوجود وهي "الأنعام" إذ بين منافعها في قوله تعالى: (والاَنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تَسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الاَنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) [سورة النحل/الآيات: من 5 إلى 9].
إن ارتباط الجمال بصورة الأنعام في هذه الآيات الكريمة، مرجعه إلى اعتماد البشر عليها في أغلب حاجياته الحياتية اليومية، فهي مصدر عيش وتغذية وستر ودفء، وطاقة ووسيلة نقل لا غنى عنها، وفوق كل هذا فإنها تقدم متعة ولذة وشعورا بالجمال عند إراحتها أي ردها بالعيش إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا، وتسريحها، أي إخراجها بالغداة إلى المرعى[5].
ولكن المقصود من هذه الصورة الجمالية التي قدمها الخالق عز وجل لخلقه هي إرجاعها إلى أصلها، ومعرفة صاحبها ألا وهو الله الجميل، لذلك ختم الله هذه الآيات بالحكمة المقصودة، والغرض المنشود من ذلك كله، قال تعالى: (وعلى الله قصد السبيل).
ويذكرنا هذا المعنى بقصة نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام، إذ حكى الله تعالى عنه تجربة معرفية كبيرة كان سببها عرض خاص لخيل غنمها من جهاده، والخيل من أجمل الظهور وأقواها، حتى قال فيها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"[6].
قال تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب، اِذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب، رُدُّوها علي فطفق مسحا بالسوق والاَعناق) [سورة ص/الآيات: 29 إلى 32].
فقد نقل المفسرون أن خيلا كثيرة باهرة الجمال والقوة عرضت على نظر سليمان عليه السلام، فظل ينظر إليها ويتمتع بجمالها حتى فاته وقت صلاة العصر، فأمر بها فعقرت، وهو الذي عبر عنه بقوله تعالى: (فطفق مسحا بالسوق والاَعناق) ومن دلالات المسح في اللغة "القطع بالسيف"[7].
إن تذوق معاني الجمال الإلهي المنتشر في الأكوان نور يقذفه الله في قلوب أوليائه يقفون به على حقائق معاني الجمال الوجودي، وهذا ما أكدته تعريفاتهم للجمال، فقالوا: "الجمال هو تجليه بوجهه لذاته فلجماله المطلق جلال هو قهارتيه للكل عند تجليه بوجهه فلم يبق أحد حتى يراه، وهو علو الجمال، وله دنو يدنو به منا، وهو ظهوره في الكل كما قال القائل:
جمالك في كل الحقائق سافر وليس له إلا جلالك ساتر
ولهذا الجمال جلال هو احتجابه بتعينات الأكوان، فلكل جمال جلال، ووراء كل جلال جمال، ولما كان في الجلال ونعوته معنى الاحتجاب والعزة لزمه العلو والقهر من الحضرة الإلهية والخضوع والهيبة منها، ولما كان في الجمال ونعوته معنى الدنو والسفور لزمه اللطف والرحمة والعطف من الحضرة الإلهية والأنس بها"[18].
ولقد استلهم أهل المحبة الإلهية من المتصوفة هذا الأصل الرفيع من أصول المعرفة، فتوجهوا إلى الله بصدق وإخلاص، وخالفوا عوائد نفوسهم، وعمروا أوقاتهم بصالح الأعمال، وأناخوا على باب الجميل فلم يبرحوه، فلما علم صدقهم أمدهم وتفضل عليهم، وتجلى لهم فشهدوه ببصائرهم يقينا، فعبروا عن هذه التجربة الروحية الفريدة في أدب مثل أسمى وأرقى مستويات الإبداع في تاريخ الأدب العربي.
إن الرؤية الجمالية للأشياء تقوم على أساس توحيدي معرفي عميق، يرجع الفروع إلى الأصول، ومظاهر الوجود إلى حقيقتها، والوصول إلى هذا المستوى مرتبط بتربية روحية أخلاقية معرفية عالية، تضمن للعالم توازنه واستمراره ، فبقاء صورة جمال العالم رهين ببقاء تصور عرفاني صحيح.