كتاب “بابلو إسكوبار والدي”.. الدار تقدم النسخة العربية (الحلقة 18)
الدار/ ترجمة: حديفة الحجام
الفصل الثالث
إحلال السلم مع "الكارتيلات" (11)
بعد الاستماع إلى توضيحه عرفنا أن رؤوس تنظيم "كالي" انتهوا لتوهم من إضافتنا –دون الاهتمام بموافقتنا أم لا– إلى استراتيجيتهم الموجهة إلى الحصول على امتيازات قانونية من خلال دفع الرشاوي، وقد طالبونا بمبلغ خمسمائة ألف دولار كمساهمة، لأنهم كانوا يخططون لإضافة فصل كتبوه بأنفسهم من فصول قانون بدأت المداولة بشأنه داخل مجلس النواب تُحفظ بموجبه ممتلكات المافيا في عملية تصفية الممتلكات. ولم تترك لنا رسالة المحامي التهديدية أي خيار آخر خلا اقتراض المبلغ ودفعه.
لكن الأمر لم ينته عند ذلك الحد. ففي ماي 1994، تلقينا زيارة أخرى لمرسول من "كالي"، ولم يكن في تلك المرة محاميا وإنما رجلا معروفا في أوساط المافيا. استقبلناه على مضض وأخبرنا أن مجموعة كبيرة من تجار المخدرات من الجنوب الغربي للبلاد كانت يقترح دفع مبلغ كبير من المال لتمويل حملة إيرنيستو سامبير الرئاسية، بدعوى أننا سنتفيد أيضا من مساعدة الحكومة المستقبلية، سواء فيما يهم استرجاع ممتلكاتنا والحصول على لجوء إلى بلد آخر. وعلمنا عندها أنه بينما كان ميغيل رودريغيث يتطرق في حديث سابق معنا إلى "الرئيس الجديد القادم" فقد كان يشير إلى جعل الرئيس الذي سيعوض ثيسار غابيريا يصطف إلى جانبه.
وعجزنا في تلك المرة أيضا عن رفض المقترح والتزمنا لمرسول "كالي" بدفع المبلغ دون أن يوضح لنا الوجهة الحقيقية للمال. دفعنا المساهمة لكننا لم نتمكن أبدا من استعادة ممتلكاتنا ولا حتى الخروج من كولومبيا. وبعبارة أخرى، لقد أضعنا المال. وأسوء ما في الأمر استمرار المافيا في بيعنا كما لو كنا صندوقا لجمع المال حيث لم يتوقف الطلب على المال تحت ذرائع غير معقولة. لكن من يستطيع رفض تسليمهم المال في تلك الظروف؟ وحتى التقدم بشكوى للنيابة العامة لم يكن ذي جدوى، فقد بلغت وقاحة زعماء "كالي" في تلك الفترة أنهم توفروا على مكتب خاص في نفس مبنى الوكيل العام دي غريف.
وكان يذهب إلى هناك كل من كان يرغب في السفر إلى "كالي" لتسوية أي مشكل، إذ شكلت النيابة العامة المحطة الأولى. وليس ذلك بالأمر الجديد، فقد كان من الطبيعي دخول "لوس بيبيس" وخروجهم، كما لو تعلق الأمر ببيتهم. وكنا كلما زرنا النائب العام للسؤال عن موضوع من المواضيع توجب علينا أن نرى هل زعماء "كالي" موافقين، لكن لم يكن من الضروري الخروج من المبنى للقيام بالاستشارات المعمول بها.
كيف بالإمكان دحض فكرة أنه في تلك الفترة لم تكن علاقات "كالي" بالنيابة العامة شبه جنسية، فقد قال النائب العام دي غريق في أحد الأيام بشكل علني إن تنظيم "كالي" لم يكن له وجود. لم يكن موجودا بالنسبة إليه لأنه كان على وفاق مع كاتبته الجديدة والجميلة –التي وضعها "كالي" بانتقائية كبيرة– وبلغ بها الأمر أن قامت بصباغة شعره باللون الأسود. كان دي غريف يعلم بخبر الرحلات السفرية لوالدتي، إذ وبالرغم من أن رجال الأمن لم يكونوا ينتبهون لذهابها، فقد كانت أخبار اجتماعها بالزعماء تصله من "كالي". وكان يضع خلال بعض الاجتماعات التي عقدناها معه داخل تعاليق مضحكة في هذا الشأن.
قبلنا في أواسط غشت 1994 اقتراح القائد "تشابارو" وسافرنا إلى ضيعة "نابوليس" برفقة اثنين من عناصر النيابة العامة وفرد من مديرية البحث الإجرامي والانتربول التابعة للشرطة. أخبرت والدتي القائد وأجابها أن لا داعي للخوف وأنه سيضمن أمن المنطقة. كانت أشبه بعطلة صغيرة. انطلقنا من بوغوتا أنا وأمي وأندريا ومانويلا وفيرناندو هيناو؛ بينما جاء جزء من العائلة من ميديين لإلقاء التحية علينا، منهم الجدة نورة.
وصلنا إلى الضيعة ليلا وكان في انتظارنا أوكتابيو، المسؤول كما العادة، والذي قام بتحضير الأسرة في أربعة أكواخ صغيرة مجهزة بحمام، لكن التكييف لم يكن يعلم إلا في واحدة منها. كانت تلك المنطقة من "نابوليس" معروفة بـ "الجانب الآخر" لأنها كانت تتوفر على مركز صحي، وقاعة للعمليات وصيدلية مزودة بكل أنواع الأدوية، وحانة "إلتابلاثو" حيث كان والدي يخفي مجموعة جيدة من أقراص الفونوغراف وبعض التحف القديمة معلقة على طراز مقاهي الروك الجميل.
وأحسسنا مع ذلك بأنفسنا غرباء خلال مقامنا القصير بـ "نابوليس"، لأننا قضينا حوالي سنتين دون زيارتها، كما لم يبق شيء تقريبا من بذخ سنوات الثمانينيات وأبهتها، حينما كان عدد العاملين يتجاوز ألفا وسبعمائة شخص. تجولنا في الضيعة على السيارة وآلمنا كثيرا رؤية الحشائش تجتاح المنزل الرئيسي وبالكاد كانت تُرى الحيطان. وفي البحيرات بدت أعين أفراس النهر غارقة في الملل.
استيقظت في الليلة الثانية في "نابوليس" بسبب الحرارة المفرطة وتفاجأت لأني رأيت رجلين مسلحين ببندقيتين من نوع AK-47، بيد أن وقفتهم لم تبد عدائية فتقدمت للسلام عليهم. وبالفعل، أخبراني أن القائد "تشابارو" أرسلهما لحمايتنا بعدما حدثت في الأيام الماضية مواجهة مع جيش التحرير الوطني في منطقة من نابوليس المعروفة بـ "باناديريا"، وطلبا منا أن نبقى هادئين لأن عددا كبيرا من الرجال كانوا يقومون بدوريات في المنطقة. وعرضت عليهما مشروبا بعدما بدا لي أنهما عطشى والعرق يبللهما. كم هي غريبة هذه الدنيا، فبفضل الحوار الصريح بين والدتي والقائد "تشابارو" اختفى كره الماضي وتلاشى.
ومع نهاية غشت 1994، كنا قد سلمنا كل الأملاك التي تركها والدي باستثناء مباني "دلاس" و"موناكو" و"أوفني"، التي كانت في ملكيتي أنا وأختي حسب الاتفاقات. مع ذلك ظلت بعض الشكوك تحوم حول ملكية طائرة ومروحية والدي وهو ما جعل زعماء "كالي" يدعون والدتي مرة أخرى لاجتماع في تلك المدينة. سافرت دون تأخر ورأت أن الجو السائد هناك بخصوصنا قد تغير بشكل جذري.