أخبار الدارسلايدر

اللامرئيون بالمغرب.. أبناء “الأمهات العازبات” 

تحقيق/ سعيد المرابط

لم يتشكل وعي عليٍّ بعد، لا يدري ما تخفي له الأقدار وراء أكمة الأيام، كواحد من آلاف الأطفال الذين جاؤوا إلى الدنيا من “أمهات عازبات”، بغير إرادة منهم ولا سعي، ليعيشوا حيواتهم بين أربعة أضلاع محورية، الدين والقانون والمجتمع، ودعوات حقوقية تطالب بإخراجهم من دائرة اللامرئي إلى رحابة الحياة.

أم عازبة 

يجلس علي في عربته التي تدفعها أمه، يضحك، وابتسامته الطفولية العذبة، تمسح عن والدته مريم (إسم مستعار)، كل عذابات الدنيا، فقد اختارت أن تنجبه بدل إجهاضه، لأنها لم تستطع إلى ذلك سبيلا، ولأنه بالنسبة لها ليس “خطيئة”، بل “ثمرة علاقة حب مجنونة”.

في اليوم الذي وضعت فيه مولودها، رافق مريم إلى المستشفى صديقتها، لأنه كان وقتًا صعبا للغاية، و”الأطباء مشبوهون إذا ذهبت وحدي”، وفق ما قالته لـ”الدار”.

ولكي لا تقول إنها عازبة، وخوفًا من الشرطة، أجبرت على الكذب بشأن والد الطفل، وواجهت مشاكل في وقت لاحق لتسجيله، ولكن دون جدوى.

والد الطفل، شاب في عمرها، هامت به حبًا، تعرفت عليه ذات صيف بتزنيت، فقد كان يأتي من الديار الفرنسية لزيارة جدته التي تقطن ذات الحي الذي كبرت وترعرعت فيه مع أهلها.

ما زال والد علي، يرسل إليها المال، ولكنه يرفض الزواج منها والاعتراف بابنه، خوفا من خسارة والديه وإخوته.

مريم (28 سنة)، التي خسرت حياتها، عائلتها ومستقبلها، لم تستسلم، ولم تجهض؛ لقد كانت شجاعةً واحتفظت بصغيرها، وقررت أنهما سيستمران في المضي قدمًا معًا في الحياة.  أخبرتنا كيف كانت الولادة والبهجة التي تشعر بها كأم، تعشق طفلها ولا تتخيل حياتها بدونه.

وفي بعض الليالي، سرا، من وراء أبيها، تتصل بأمها أو أخواتها المتواجدين بمدينة تيزنيت جنوب البلاد، وتطلب منهم المشورة بشأن كيفية رعاية الطفل.

تتحدث مريم بثقة، دون توتر، وبكلام مباشر مختصر، كأنها معتادة على الحكي، حكي فصول قصة طوقت عيون صاحبتها بسواد، يبدو كأنه خاتم الحزن وتوقيع السهاد.

طلبنا منها التقاط صور، فكان رفضها معللا بالمنطق، “يحترمني الجميع هنا، لأنهم لا يعرفون قصتي”، فاحترمنا رغبتها وتفهمنا الظروف.

مريم تعرف ما يواجهها، ولا يهما شيء غير صغيرها، الذي تنكر له من كان شريكها في قصة الحب تلك، لكن هناك العديد من القصص التي تواجهها النساء في هذا الموقف.

ويحصل البعض، الأكثر حظًا، على دعم أسرته لترتيب الزواج والاحتفال به قبل ولادة الطفل. ويترك أخريات الأطفال في المستشفيات أو دور الأيتام دون أن يعرف أحد ذلك.

وهناك أيضًا من يعرضون حياتهم للخطر من خلال إجراء عمليات إجهاض سرية دون أي حضور طبي. وفي سياق الوسم الاجتماعي الكبير، لا يزال الإجهاض أو الهرب خيارًا تختاره الكثير من النساء، لأنه يسمح لهن إلى حد ما “بالحفاظ على المظاهر” والعودة إلى منزل الأسرة.  وهو قرار بتكلفة عاطفية عالية، وبسبب نقص الموارد أو التمييز والضغط الاجتماعي.

لعائشة رأي مغاير للكثيرين، بحيث تفضل التحدث مع العائلات لمحاولة المصالحة، وحتى تتمكن الأمهات  من الزواج أو على الأقل تتعرف العائلات على الطفل.

“لا توجد حاجة للذهاب إلى المحكمة، من الأفضل أن يعرف الأب شخصيًا أن الطفل سيصبح سعيدا بأبيه”، تقول الشنا.

“أبناء الحرام”

الآلاف من النساء مثل مريم، بين عشية وضحاها أصبحن أمهات عازبات، تشردن وطردن من منازل عائلاتهن، ونبذن من قبل الأصدقاء والجيران وزملاء العمل.

وفي المغرب، يجرم القانون الجنائي العلاقات خارج الزواج، ويحتقر المجتمع أطفالهن وينعتهم بأقبح النعوت “ولاد لحرام”، (أبناء الزنى)، باللهجة المغربية، وهذا هو النعت الدارج، لـ”أطفال الخطيئة”، كما تجيد العربية النعت.

بصوت مهدج، وشفاهٍ مرتعشة، تأسف مريم في حديثها لـ”الدار”؛ لحال الكثيرات من بنات قدرها، “في المغرب، النساء غير مستعدات للعيش دون حماية الأسرة، ولا مغادرة المنزل مع طفل”.

وفي حالتي، أعرف “أنني دمرت حياتي كلها، لقد هربت من الأسرة، دون إمكانية الزواج، ولا الدراسة، ولا حتى العثور على عمل جيد”.

القانون غير متطور

لا تزال المادة 490 من القانون الجنائي المغربي، التي تنص على عقوبة بالسجن لمدة سنة واحدة لمن يمارسون الجنس خارج إطار الزواج سارية.

وليس لحزب العدالة والتنمية، الحزب الإسلامي الحاكم، نية لتغييره، والمعارضة لا تكافح من أجل إلغائه أيضا، إنها قضية ليست على جدول أعمال أي شخص، اللهم بعض الحقوقيين، وثلةٌ من التقدميين بالمغرب.

ويقول المحامي، خالد الإدريسي، لـ”الدار”، “لا تتمتع الأمهات العازبات وأبنائهن بالحماية القانونية الكافية في القانون المغربي، سواء في إطار القوانين المدنية ولا سيما مدونة الأسرة أو في إطار القانون الجنائي”.

ويعتبر الإدريسي أن المقتضيات المتعلقة بالنسب “لا تنطبق على هذه الحالات لأن الشروط الشرعية غير متوفرة، رغم سبقية وجود سابقة قضائية حاولت إضفاء طابع الشرعية على هذا الاشكال في محكمة قضاء الأسرة بطنجة، إلا أنه للأسف تم الغاء هذا التوجه بعد الطعن فيه”.

ويعتقد الدكتور الإدريسي، في حديثه لـ”الدار” أنه “ربما الضمانة الوحيدة التي للأم العازبة وابنها هي اللجوء إلى قواعد المسؤولية التقصيرية من أجل مطالبة الأب المفترض بالتعويض عن الخطأ الذي قام به، وتسبب في حمل غير مشروع وغير مرغوب”.

ويضيف “كما أنه على المستوى الجنائي في غير الحالات التي تعتبر فيها الأم العازبة ضحية، كما هو الحال في حالة الاغتصاب، فإنه في بعض الأحيان قد تتابع لارتكابها لجرائم الفساد أو المشاركة في الخيانة الزوجية، وهو ما يجعل الإطار القانوني غير متطور من أجل إضفاء الحماية اللازمة للأم العازبة وأبنائها”.

ويشدد الإدريسي على أنه من “الواجب القيام بتعديل تشريعي من أجل شرعنة وضعيتهما، كما أنه على القضاء تحمل مسؤوليته نحو المزيد من الجرأة من أجل الإعتراف بهذه الحالات”.

معاناة مضاعفة 

هناك العديد من النساء اللواتي يخاطرن للعيش في مهمة صعبة، وهي أن تكون من الأمهات العازبات، ويواجه هؤلاء النسوة وأبناؤهن  عقبات مختلفة، بما في ذلك الحكم عليهم بشدة من المجتمع إلى الحد الأكبر بسبب قرارهن.

وأكد محسن بنزاكور، أستاذ متخصص في علم النفس الاجتماعي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الجديدة، لـ”الدار”، على أن “نفسية ما تعيشه الأم العازبة التي لا تزال في وضعية قانونية غير معترف بها؛ تنعكس على نفسية الطفل، من خلال الإقصاء والرفض الاجتماعي الذي يواجه الأم”.

ويرى الدكتور بنزاكور، أن “الفترة الأولى من الطفولة حساسة في بناء الشخصية، خصوصا وأن الجانب المعرفي والإدراكي لدى الطفل ضعيف جدا، ويحتاج إلى الاستقرار النفسي، والعطف والحنان، والطمأنينة والأمان، وهذا أول ما يضرب في الحياة الشخصية لهذا الطفل التي هي في طور البناء”.

وأضاف، أنه في الفترة الدراسية “يواجه هؤلاء الأطفال، عزلا وعدم قبولٍ من طرف زملائه بسبب الرفض الذي تواجهه أمه، فيتعرض الطفل لضغوط نفسية من خلال أوصاف (ولد الحرام، ابن العاهرة)، والتي تكرس لديه الإيمان أنه مهمش اجتماعيا، وبالتالي احتمال انحرافه”.

واعتبر بنزاكور في تصريحه لـ”الدار”، أن “معاناة طفل الأم العازبة مضاعفة، بحيث يحاول التأقلم مع مجتمعٍ يرفضه، ويحاول التأقلم مع ذاته لقبول هذا الرفض، ويقبل أن يجد على نفسه حلولا خاصة به لكي يتسلق سلم المجتمع الذي ينتمي إليه، بحيث عليه أن يتفوق في الدراسة وينجح اجتماعيا ويُقبل مجتمعيا، وتلك مسألة ليست سهلة، وهنالك أطفال ليست لهم هذه القوة، وحتى المؤسسات لا تنجح في كسر تلك الصورة النمطية عنهم، فكلمة ادماج ليست مصطلحا براقاً، ولذا فكل الظروف تهيؤهم للانحراف، والإجرام والمرض النفسي”.

وأشار بنزاكور إلى ضرورة انتباه المجتمع لهؤلاء الأطفال وعدم رفضهم، لأنهم، “لم يختاروا المجيء إلى هذا العالم، ولم يختاروا آبائهم ولا أمهاتهم، بقدر ما اختارهم المجتمع وجعل منهم شيئا مرفوضا”.

وخلص عالم النفس الاجتماعي، إلى أنه “سواء شاء أم لم يشأ هذا المجتمع، فهم مواطنين، ويجب معاملتهم كمواطنين كاملي المواطنة، وعدم التكريس لانحرافهم، لا سيما أن أعدادهم كبيرة، ولا يمكن تحميلهم فاتورة غيرهم، وعلى المؤسسات والمثقفين والنشطاء والإعلام القيام بدورهم لإدماج هذه الفئة داخل المجتمع”.

ازدواجية المجتمع وتشدد السلطات 

في المغرب، كل شيء مرتبط بشكل جوهري بالدين والمجتمع، “حشومة” (عار) أن تفقد الفتاة عذريتها قبل الزواج، حرام هو الوشم، وحرام كذلك الإجهاض، كل شيء يحرم علانية ويمارس بالتواري في الخفاء.

وبالتوازي مع لقائنا بمريم، في مدينة أكادير، جنوب البلاد، كانت الرباط تشهد تنظيم ندوة بعنوان “هل نحن في زمن حقوق الإنسان”، حضرها سياسيون ومثقفون مغاربة، كانت من بينهم نزهة الصقلي، الوزيرة السابقة للأسرة والتضامن والمرأة والتنمية الاجتماعية.

وقالت، إن الحكومة المغربية تبرر رفضها لتوصيات المجلس الوطني لحقوق الانسان بجنيف، “بقضية ثوابت الأمة حتى لو كان هذا الرفض يمس بحقوق الاطفال والنساء”.

وأضافت الصقلي أن السلطات “تتفاعل بسرعة مع الشكايات المرتبطة بالبالغين الذين يمارسون الحب، والعلاقات الجنسية الرضائية”، لكنها بالمقابل “تتساهل مع تزويج القاصرات”.

وأكدت، على أن المجتمع “يمارس نوعا من الازدواجية فهو يمنع العلاقات الجنسية على النساء وليس على الرجال”، متسائلة “هل هذا منطقي؟”.

وزادت قائلةً، “نفس الأمر بالنسبة للطبقات الاجتماعية، فالأغنياء لا يجدون صعوبات في إشباع رغباتهم الجنسية عكس الفقراء”.

غياب إحصاء رسمي 

الإحصاء الرسمي للأمهات العازبات غير معروف، وعدد الأطفال كذلك، وتبدوا “وزارة الصحة مترددة للغاية في تقديم هذه الأرقام”، وفق المعطيات التي استقتها “الدار”، ناهيك أن هؤلاء الأطفال يتعرضون لـ”التهريب والتبني غير الرسمي”.

“إنصاف”، واحدة من أكثر الجمعيات خبرة في مساعدة الأمهات العازبات، تتخذ من الدار البيضاء مقرا لها، نشرت دراسة في عام 2010 أشارت فيها إلى أنه بين عامي 2003 و2009 كان هناك ما معدله 30 ألف مولود في العام من الأمهات العازبات.

ولذلك، في تلك السنوات الست وحدها، كان على ما مجموعه 21 ألف امرأة ونيف؛ أن يعشن اللوم والإقصاء الذي يعامل به المجتمع أولئك اللواتي أتين بأطفالهن إلى العالم خارج نطاق الزواج، وكان ثلثهم بين “15 و20 سنة”.

عائشة الشنا، رئيسة الجمعية المغربية “التضامن النسوي”، -تأسست عام 1985-، التي تتخذ من الدار البيضاء مقرا لها، قالت لـ”الدار”، أنه “يتم إلقاء 24 طفلا في سلة المهملات يوميا في المغرب”، وهذا الرقم المروع، يبرز الصعوبات التي تواجه هؤلاء النسوة اللائي يعرفن بـ”الأمهات العازبات”، في المغرب.

عائشة الشنا، هذه المرأة، التي تجاوزت سن السبعين (من مواليد 1941)، هي واحدة من أكثر الشخصيات رمزيةً في المغرب كمدافعةٍ عن المرأة، فهي تنافح عن الأطفال المتخلى عنهم، وتقدم المساعدة للأمهات العازبات لرعاية أطفالهن وتحمل مسؤولياتهن كـ”امرأة مستقلة مع أطفالها”.

تستمع الجمعية إلى كل امرأة لتحديد حاجتها، ومقارنة الفوائد التي يمكن أن تقدمها لها، وتتبع المسار الذي سيرافقها، حتى تتغلب على الصعوبات.

وتعتبر الشنا، أنه “يجب أن يكون الأطفال مع أمهاتهم”، مضيفةً أن “الرجال اليوم أكثر حساسية تجاه الأبوة والأمومة”.

“المغرب يريد كل شيء، ولهذا السبب نعيش انفصام الشخصية”، تقول الشنا.

وفي الواقع، يتم “التخلي عن 50 ألف طفل كل عام، ويرمى في المتوسط 24 طفلاً يوميا في القمامة، ولا يوجد عدد رسمي للأمهات العازبات، ولكن قبل عقد من الزمن كان عددهن يتجاوز نصف المليون”، تقول الشنا، في حديثها مع “الدار”.

50.57 بالمئة من السكان المغاربة من النساء (متوسط العمر المتوقع لهم هو 80.5 سنة)، ولكن 28 بالمئة منهن فقط يصلون إلى التعليم الثانوي.

وتعمل المرأة المغربية بشكل رئيسي في القطاع الزراعي وصناعة الأغذية والنسيج والخدمات العامة، وهو ما يفسره الحقوقيون على أنه “عقبة أمام تقوية مكانة المرأة”، داخل مجتمع يصفونه بـ”الذكوري”.

ويبدو أن الطريق لتغيير “القوانين التمييزية والظالمة” -كما يراها كثيرون-، فيما يتعلق بالأمهات العازبات طويل وشاق في المغرب،

على الأقل من أجل ملاءمة قوانينه التشريعية، مع الإتفاقيات الدولية التي انضم إليها، والمتعلقة بحماية كل الأطفال، وضمنهم الأطفال المولودين خارج إطار الزواج.

وفي الوقت ذاته، وقبل أن يخرج ذلك من إطار التمني وحدود أحلام النشطاء، إلى فضاء الواقع، يصبح عمل بعض الجمعيات الإنسانية أمرًا لا غنى عنه، وتبقى إبتسامة الصبي علي التي ودعنا بها، رسالةً صامتةً إلى المجتمع والحكومة، رسالة تناغي إشراقة المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى