اليسار والانقسام..عندما يصبح الفيروس ذريعة للتشرذم
الدار / افتتاحية
آفة اليسار عشق أزلي للانقسام والتشرذم. أكثر من نصف الأحزاب السياسية الناشطة في المغرب هي من سلالة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أنجب رحمه الكثير من التنظيمات السياسية. كلما اشتد الخلاف، وما أكثر الخلافات عند اليساريين، خرجت زمرة صغيرة من قلب زمرة كبيرة لتأسيس تنظيم جديد والدفاع عن فكرة جزئية مجهرية صغيرة في مواجهة رفاق الأمس. منذ الانتخابات التشريعية الماضية بدأت روح الحيوية والنشاط تدب في جسم الحزب الاشتراكي الموحد، الذي يعتبر أيضا من ذرية الاتحاد، وظهرت على الساحة بعض وجوهه النسائية والشابة التي استطاعت ملء فراغ النقاش العمومي في كثير من القضايا المثيرة والجريئة.
النائب البرلماني عمر بلافريج، والأمينة العامة نبيلة منيب، مثلا إلى فترة قريبة ذلك الوجه الحداثي لقيم اليسار، التشبيب والنسوية وتجديد النخب، وغيرها. وعلى الرغم من أن الحزب لم ينجح في تحقيق نقلة انتخابية نوعية، إلا أن نائبيه في البرلمان، عمر بلافريج وزميله الشناوي، استطاعا أن يثيرا الانتباه بما عبرا عنه من مواقف وما قدماه من مداخلات عكست أفكار الحزب المبدئية، وتوجهاته السياسية الثابتة. لكن هذا العرس اليساري الجميل، لم يطل كثيرا، ولن يطول على ما يبدو.
ها هي ذي رياح الانقسام والتشرذم تهب من جديد على الحزب، الذي تولد عن تفتت أحزاب أخرى. وكأننا مقبلون في المستقبل القريب على تفتيت المفتت، وتشتيت المشتت. فآفة اليسار واليساريين أن الإيمان بحرية الرأي وتقديس الفكر يمكن أن يذهب بهم بعيدا إلى حد المغامرة بالتنظيم والانضباط لتوجيهاته، إلى درجة يصبح فيها التقاطب هدفا في حد ذاته، بدل أن يكون مجرد وسيلة لتصريف الديمقراطية الداخلية. لقد اشتدت الأزمة بين تياري الأمينة العامة نبيلة منيب والنائب البرلماني عمر بلافريج، بعد تداعيات تصريحات القيادة بشأن فيروس “كورونا” التي قللت فيها من خطورته.
وبدل أن تظل هذه القضية مجرد خلاف عادي في الرأي، مثلما تدافع عن ذلك قيم اليسار الأصيلة، انتقل الصدام إلى مستويات تحدث فيها الطرفان عن تجميد عضوية النائب عمر بلافريج. فنظرية المؤامرة، التي تشغل بالمناسبة العالم كله، بما في ذلك قادة دول عظمى مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونظرائه من الشعبويين عبر العالم، ستتحول في الحزب الاشتراكي الموحد إلى عامل تفجير للتنظيم يمكن أن يؤدي إلى انقسام جديد، علما أن الموضوع لا يعدو أن يكون جدلا عابرا يمكن تجاوزه بتجاهله أصلا. لكن في ثقافة اليسار وتنظيماته المغربية، يعتبر النقاش مقدسا، والأفكار مقدمة على أي جانب آخر، وقد ينشق تيار كامل لتأسيس حزب جديد فقط لأن التيار الآخر يتعارض معه في فكرة يعتبرها مبدئية.
يحدث كل هذا في الوقت الذي لا يفكر فيه الحزب الاشتراكي الموحد وغيره من التنظيمات اليسارية غير الحكومية، في البحث عن سبل المصالحة مع الشارع، والخروج من فخ تمثيل أقلية الأقلية، المثقفة والواعية، في الوقت الذي تدعي فيه هذه الأحزاب أنها تدافع عن الشارع وعن مطالب الشعب. لقد كان من الأولى لرفاق منيب وبلافريج أن ينصرفوا إلى حل هذه المعضلة القديمة التي تجعل خطاب اليسار خطابا متعاليا ومتعالما يرفض النزول إلى مستوى أذهان البسطاء مثلما كان في الأصل فكرة بسيطة وقريبة من الناس ومن همومهم وانشغالاتهم اليومية.