الدين والحياةسلايدر

مدارسنا وشبحُ التكفير….حديثٌ غير مألوفٍ مع ابنتي

محمد التهامي الحراق

ما إن وصلت إلى البيت، حتى وجدتُ ابنتي تتأهب لإخباري بـ”قرار” يبدو أنها أجهدت ذهنَها وطوعت نفسها لاتخاذه. بادرتني، بحماس متردد في عينيها وصوتها، أنها لن ترافقني قطُّ إلى مقام وليٍّ أو مزار أو ضريح. وكنت قد دأبت، مدى سنوات، على اصطحابها معي لحضور جلساتِ المديح والسماع بمقام الولي الصالح سيدي علي بن أحمد كلما زرنا مدينة وزان. وهذا المزار يعتبر واحدا من مراكز ومدارس الذكر والمديح والسماع بالمغرب، مثل مشهدِ سيدي العربي بن السايح بالرباط، ومشهد المولى إدريس الأزهر بفاس، ومشهدِ أبي العباس السبتي بمراكش، ومشهدِ أبي محمد صالح بآسفي وغيرها.

طبعا، سألت ابنتي ما سر هذا “القرار” المفاجئ؟ فأخبرتني أنها درست في مادة التربية الإسلامية درسا حول “العقائد الصحيحة والعقائد الفاسدة”، وهو من مُقَرّر هذه المادة في مستوى الأولى إعدادي، وفهِمَت من شروح أستاذتها والأَسْنَاد والصور الموضّحة المرفَقَة، أن “كل من يزورُ ضريحا هو مشرِك بالله فاسد العقيدة”؛ خصوصا وأن الأستاذة قذ قارنت في شروحها، وقرنت، بين هؤلاء الزوار “المتمَسِّحِين بالمزارات”، وبين “عَبَدَة الأصنام” في الجاهلية، و”مُقدِّسِي البقر” من الهندوس.

مكثتُ للحظاتٍ حائِرا صامِتا، مستغرِبا، كيف لمثل هذه المقارباتِ التعميمية التغليطية التسطيحية، والمختزَلة المختلَّة، والمتناقِضَة مع جوهر الدين، وعمقِ الثقافة الروحانية المغربية، وتاريخ التدين بالمغرب، وكذا مع روح احترام “الأديان” الأخرى على اختلافها، و مع روح السماحة والجمال والرحمة والتعارف التي ما فتئ يُنَادى بها رسميا؛ كيق لمثل هذه المقاربات مازالت تقطن مدارِسَنا، وتُسَمَّمُ بها عقولُ صغارنا باسم “تصحيح العقيدة”، رغم ما طال مادة التربية الإسلامية مِن إصلاحٍ ومراجعةٍ وتهذيبٍ بأمر ملكي سامٍ رسمي؟؟؟؟

داهمني الخوف من هذا النَّفَس السّلفوِي الوهّابي الذي يسري في الدرس؛ بل شعرتُ بالهلع من “الدعشنة” التي قد يؤول إليها الدرسُ المعلوم؛ إذ مشهورٌ نزوعُ هذا المنحى الأصولاني المتشددِ نحو تخريب مزاراتِ الصلحاء وقبابِ والعلماء والأولياء كما حدث في مالي وليبيا وأفغانستان وسوريا وتونس…بنفْسِ حججِ فساد وإفساد العقيدة!!!!. وجدتُ نفسي مُرْغَما على تقديمِ درسٍ آخر؛ درسٍ تصحيحي لِمَا رسخَ في ذهن ودخيلةِ طفلةٍ نشأت في سياق روحي صوفي مغربي محض، ولم يقترن الضريحُ أو المزارُ في مخيلتها بشيءٍ مما سمعَتْه من أستاذتها؛ بل اقترن لديها بتجويد آيِ القرآن الكريم، وبدروس الشمائل النبوية، واجتماع الإخوان في الله على المحبةِ والودِّ والذكر؛ مثلما انتقشَ في مخيلتها العميقة بالزّكِيّ من البَخور، والبهيِّ من الزرابي المزركشة الأصيلة، والزهيِّ من المعمار الأندلسي المغربي الباذخ، والجميلِ اللباس التقليدي الأنيق، والشجيِّ من أصوات الذاكرين والمادحين، والرقيقِ من الأشعار الفائقة البليغة في مدح الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، والبديعِ من السرد المُرنَّم لسيرتهِ العطرة، مع استحضار رفيع لقيمِ نقيِّ التوحيد، ورحيقِ المحبة والجمال في كلام القوم، أي في الشعر الصوفي؛ فضلا عنْ لغة مبلَّلَة بجزالةِ العبارة وبلاغةِ الإشارة، ورونقِ الأداء الخاشع للصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم……؛ كل هذا الأفق الساري في دخيلةِ البُنَيَّة – وهو ثمرةُ تجربة تدينية مغربية تشكَّلت على امتدادِ قرون- يختلف جذريا عن الصورة الكاريكاتورية الشائهة التي رسمتها الأستاذة عن المزارات والأضرحة ومقامات الصالحين.

طبعا، لا يُنْكِر أحد أن ثمة انحرافاتٍ هنا وهناك حصلت في سائر المجالات والحقول والتجارب، وأن ثمةَ خلطا بين الثقافة الروحانية الرشيدة من جهة والخرافة والشعوذة والدجل من جهة ثانية. وهو أمر ينكِرُه أهلُ الرشاد من مُقدَّمِي المزارات ومقاماتِ الصالحين وشيوخِ الزوايا والطرقِ الصوفيةِ وعلمائها وحكمائها قبلَ غيرهم. لذلك كان ينبغي عدم تعميمِ هذه الصورة، بل توصيفُ الصورة بأبعادِها المختلفة، واستثمارُ الإيجابي والنوراني فيها، مع التذكيرِ بآداب الزيارة، والبذلِ لترشيد المنحرِفِ من السلوكات، والتمييزِ فيها بين السليم والسقيم، بدلَ تعميم الحُكْمِ على أماكنَ وفضاءاتٍ لعبت أدوارا تاريخية وتعليمية وروحية واجتماعية وجهادية لا تُنْكر. كان يجب، إذن، إبرازُ هذه الأدوار ورصدُ الانحرافاتِ لتسديدها بدل العملِ على هدمِ هذه القباب في العقول، وتفليحِ تربة هدمها في الواقعِ متى ما سُقِيت تلك التربةُ بـ”خطاب” الغلو والتطرف والتدعيش.

فبدلَ ارتكاب إسقاطاتٍ فظيعةٍ وفادحةِ العواقب، كاعتبار الذبائح التي تُذبحُ بمواسم الأولياء “قربانا” جاهليا، وأنها من مَنبوذِ “مَا أُهِلَّ بهِ لغيرِ الله”، وأن كل ما يقدم للمزارات من شموع وهدايا يدخلُ ضمن “جاهلية القرن الحادي والعشرين”؛ كان يجب إبراز الأصول السليمة والمقاصد السديدةِ لهذه العادات، فما يُذبَح من ذبائح يُطلَبُ بهِ إطعام الطعام وإكرام الزوار وتحقيقُ التواد والتراحم والتضامن بين الوافدين، ولا صلة له لمفهوم “القربان”. أما الشموعُ فكانت تهدى لتلك المقاماتِ من أجل إنارتها ليلا؛ إذ كانت تُؤْوي عابري السبيل ممن لا مأوى لهم من المومنين، في سياقات تاريخية لم تكن قد أحدثت فيها الفنادقُ ولا دور الضيافة. وكل الهدايا والهبات الرسمية والشعبية لهذه المقامات، تسير في منحى توفير شروط المأوى والإطعام للزوار، والظروف الملائمة لتحقيق المقاصد الاجتماعية والروحية والعلمية لهذه المقامات، وبلوغ تبادل المنافع الروحية والحياتية المطلوبة من المواسم المنعَقِدة حولها.

أما دعوى التوسل بالأولياء، فلا أحدَ يلجأ للموتى لقضاء الحاجات، إنما هو اعتبار بصلاحِ أعمالِ أخيارهم، ودعاءٌ في مقاماتهم المضمَّخة بنفحاتِ الذكرِ والصلاة والتنسك ونوافل الأعمال التقرُّبية لله كما قلنا. فيما إنكارُ التوسل بالنبي الكريم وبأعمال أهل الفضل، هو مما وفَدَ على المغرب مع الموجة السلفوية الوهابية؛ وهو من الخلافيات التي لا صلةِ للصغار بها، وقد يكونُ الأستاذ نفسه من غير المؤهلين لخوضها. على أن ثمةَ مقاربات أخرى لظاهرة زيارة مقامات الصلحاء، لا أظن أنها خطرت بخلد الأستاذة وهي تعرض درسها؛ ويتعلق الأمر بالمقاربات التاريخية والاجتماعية والأنتربولوجية والنفسية التي لها أفقُها التحليلي الخاص، والذي يكشف عن أسباب انتعاش أدوار هذه الفضاءات بمختلف أبعادها الروحية والنفسية والقبلية(من القبيلة) والطبية والسياسية… خارج منطق الاعتقاد “الصحيح” أو “الفاسد”.

لقد رحت أبيِّنُ لابنتي أن دَفْنَى تلك المزاراتِ والمقاماتِ علماء وصلحاء وأولياء وأهل فضل، وأن الناسَ إنها بنوا عليهم قبابًا تكريما لأخلاقهم ولأدوارهم الروحية والتربوية والأخلاقيةِ الرفيعة في المجتمع. إنه تكريمٌ رمزي للقيم النبوية الرفيعة التي تخلَّقُوا بها أو نذروا حيواتِهم لها. فهذا، مثلا، رجلٌ من رجال مراكش السبعة بذل بنسكٍ وصبر ومحبة لنشرَ قيمة الصلاة على النبي الكريم في كتاب خالد عنوانه “دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار”، وهو سيدي محمد بن سليمان الجزولي. كتاب ذو قيمة كونية رسّخ في العقول والقلوبِ التعلقَ بالكمال المحمدي في المقال والحال، وشكّل مستندا روحيا وهمَّةً معنوية للمغاربة في جهادهم الصغير والكبير، في الحربِ والسلم، في السراء والضراء، في الدفاع عن حوزة الأمة وتزكية النفس الأمارة.وهذا سيدي محمد المعطى بن صالح الشرقي يُعظّم مقامُه بأبي الجعد لكونه كتبَ أعظم وأوسع كتابٍ في الدنيا جامعٍ بين السيرة النبوية والصلاة على النبي الكريم في أكثر من ثمانين جزءا حسب بعض الروايات؛ موسوعة ليس لها نظير سابق أو لاحق.

وقبلهما، هذا القاضي عياض أحد رجال مراكش السبعة أيضا، صاحبُ تحفة أهل المغرب الخالدة في السيرة النبوية “الشفا بحقوق المصطفى” يشيعُ محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم برفيع ما أودع في كتابه من نشقات ورشحات محمدية. وبنفس المدينة هذا أبو العباس السبتي، قطبٌ آخر من رجال مراكش السبعة، بذل عمره لنشر قيمة الصّدقة فصار رمزًا للعطاء والجود حتى قالَ عنه الفقيه والطبيب والفيلسوف المسلم أبو الوليد بن رشد: “هذا رجل مذهبه أن الوجودَ ينفعل بالجود”. وما زال مزارُ أبي العباس إلى اليوم مأوى ذوي الاحتياجات الخاصة ممن فقد بصره (بُصْرا سيدي بلعباس)، وما زالت “العباسيةُ” في الثقافةِ المغربية رمزًا للعطاء والصدقة، وإحالةً مرجعية على فلسفة الجود التي ميزت المذهب الروحي لأبي العباس السبتي(راجع الروايةالرائعة الأخيرة عنه للأديب والروائي د.أحمد التوفيق: “جيران أبي العباس”). وهذا أبو محمد صالح وليّ آسفي ودفينُها اعتنى بقيمة تيسير الحج، وساعدَ على تأمين الطريق إليه عبر زواياه المرصودة لهذا الغرض على طول الطريق نحو مكة. هذا، فضلا عن نساء وليّات رائدات في الصلاح والتعبد كنّ مصدر قيم النسك والعناية بالقرآن الكريم والتكافل الاجتماعي كما شأن الصالحة للا تعلات بسوس، والموصوفة بكونها رابعة أهل المغرب(نسبة إلى العاشقة الإلهية رابعة العدوية)، والتي مازال موسمُها يضطلعُ بأدوار دينية واجتماعية رائدة إلى اليوم.

هذه نمَاذِجُ فقط، إذ ما من قبّة من قباب الصلحاء إلا وهي تكريمٌ لوليّ أو وليّة، وتبجيلٌ لقيمة روحية أو أخلاقية أو اجتماعية أو جهادية، وما بنى الناسُ تلك القباب إلا تذكيرا بتلك القيم، وترحّما على صاحبها أو صاحبتها، وتمكينا للمجتمع من فضاء روحاني قوامه العلم والذكر والتلاوة والصلاة على النبي الكريم، حيث الاجتماع على التواد والمحبة والتعاون على البر والتقوى، وتبادل المنافع المادية والمعنوية لما فيه صلاح الفرد والجماعة. على أن محور اللقاء ومداره وروحه هو الذكر وتلاوة القرآن الحكيم والصلاة على النبي الكريم في هذا المقام، لذلك يدعو الناس الله تعالى تحت قبتهِ ، ويرفعون أكف التضرع للمولى بين أسواره. ولا أحد من الزائرين أبدا يفعلُ ذلك مؤلّها الضريح أو عابدا لصاحبهِ من دون الله الواحد كما كان “كفار” الجاهلية يعبدون أصنامهم وأوثانهم.

إنه لعمري إثمٌ يبوء به من يتهمهم بذلك، وإثمٌ مضاعَف حين يصيرُ سمًّا زُعافا يبذر ثقافةَ التكفير والعنف الروحي في عقولِ الصغار؛ وذلك في مدرسةٍ من المفروض فيها بثُّ روح السماحة والإيمان المشيَّدِ على ثقافةِ المحبة لا الكراهية، وأخلاقِ حُسْنِ الظن والهدي بالحسنى لا النبذِ واستسهالِ الإخراج من الملّة. فمعلوم أننا في المغربِ أشاعرةٌ لا نكفّر أحدا من أهلِ القبلة، وعلماؤنا ما يبرحون يؤكدون أنه لو وُجدت ألفُ شبهة على كفرِ شخص ما، ودلّت شبهة واحدة على إسلامه لوجب تغليبُ الحكم بإسلامه؛ فالخطأُ في إثبات الدين أهون أضعافَ المرات من خطرِ الخطأ في التكفير والإخراج من الملة. هذا من بداهاتِ ما يعده علماؤنا من صحيح عقيدة الإسلام. فما بالكَ بأناس مسلمين صادقي النية والتوجه، راسخين على عقيدة التوحيد؛ وما كان من بعضهم من انحراف فالواجب ترشيده بالحسنى لا القذف في سلامة العقيدة والإخراج من الملة، وتعميم ذلك ظلما وجهلا على كل زوار مقامات الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.

وجدتني أفصّل هذا الكلام، وأجتهدُ لتبسيط معناه لابنتي، لا سيما وأنني شعرتُ أن كلام الأستاذة سيُحدث لها انفصامًا نفسيا، ليس فقط بين ما ألفته في أسرتها وبين ما تزعمه الأستاذة في تعميم مريب؛ بل شعرتُ بجرح قد يمس هويتها الشخصية العميقة؛ لا سيما وأنني ما فتئتُ أشعرها برمزية أسمها “نظام”، رمزِ المحبة والبهاء والمعرفة في ديوان “ترجمان أشواق” للشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، مَن شيدت عليه قبة عظيمة في دمشق، وبذل بما لا يُضاهى لنشر قيمة المحبة بين الخلق عن طريق سموّ المعارف العرفانية والروحية التي فتح آفاقها، وعن طريقِ تمجيد دينِ الحب ووحدةِ أصل الخلق، وتعظيمِ الإنسان الكامل مُختصرِ الأسماء الإلهية في الأرض، وعن طريقِ إبراز وحدة المعبود في تعدد صور الاعتقاد ،على ما بينها من تفاوت في الاعتبار؛ وذلك من مدخل وحياني ومحمدي باهر. آفاق تبرّر اليوم عودة الاهتمام المعاصر بأعمال الرجل في جل ثقافات ولغات العالم.

وهنا، نأتي إلى الزلة الثانية للأستاذة وهي تقدم ضمن أَسْنَاد درسها صورة هندوسي يقدّس بقرة، تمثيلا لنموذج في فساد الاعتقاد. إنه ترسيخ احتقارِ عقائد الآخر المختلِف في عالَم يتوجه ضرورة، بفضل ثورته الاتصالية الرقمية، نحو الانفتاح الهائلِ بين الثقافات، والتواصل بين الهويات، وسقوطِ الحدود من أصحاب المعتقدَات المختلفة….؛ وهو ما يجعل من تلقينِ الدين بمنطق الاستبعاد المتبادلِ والحق المفرد المطلق، بذورا لصراعٍ عقائدي بلا حدود مع كل مختلِف؛ أو قل مع أكثر من ثلثي سكانِ العالم اليوم.

سألت ابنتي: هب أنك سافرتِ لإكمال دراستك في دولة غربية ما، وصادفتِ في قاعة الدرس أو في حيّ السكن أو في الفضاءِ العام، طالبةً هندوسية، أو متدينةً بالهندوسية، فطبقا لهذا الدرس، ستستهزئين بدينها، وقد تحتقرين مقدساتِها، باسم عقيدتك الصحيحة. أجابتني بمَا يفيد بداهة ذلك. فبادرتها: أليس في ذلك فتحا لبابِ الصدام مع كل مختلِف في الدين؟ أليس في هذا المنطق مقدماتٌ لإراقة دماءِ الإنسان التي جعلها الله أعظم حرمةً من حرمة الكعبة المشرفة؟ ألا يَحدث هذا السفك المرير للدم باسم الدين، وإلى اليوم، في الهند بين المسلمين والهندوس؟؟؟؟، أليس في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، الرحمةِ المهداة للعالمين، من مواقفِ الرحمة بالآخر العقَدي من الكفارِ وأهل الكتاب، ما يستدعي الاقتداء والاحتذاء والائتساء؟…

هنا، وبعد أن أشرقت عينا “نظام”، قاطعتني بالسؤال: لكن ما العمل يا بابا؟ إنه السؤال الذي لم تطرحهُ أستاذة التربية الإسلامية. وهي، للإشارة المنصفَة، ليستْ سوى صدى لصوت أصولاني متكلّس في فهم الدين سيدٍ وسائد، صوتٍ حجبه تكلُّسه عن أفقِ الوُسْع الرحموتي في فهمِ الاختلاف العقَدي، والذي يظل لا مفكرا فيه من لدن مَن أغلقوا عقولَهم على فهوم قروسطية مغلقةٍ للدين، جعلتهم يبدون اليوم خارجَ التاريخ، ومسيئين لروح للدين وسرِّ تعاليهِ وخلوده في التاريخ. في حين أن منارات مِن فقهائنا وفلاسفتنا وروحانيينا، الذين تُنْصَب على قبورِهم القبابُ، كانوا أرحبَ أفقا من هذه المفهوم السلفوية المتكلسة.

لم يكن بإمكاني أن أذهب في حديثي مع “نظام” إلى حدّ الإحالة على عمق ما في “ترجمان الأشواق” للشيخ الأكبر من إشارات مضيئة في هذا الأفق. اكتفيت فقط بالنتيجة: علينا، إذن، أن نحترم عقائدَ غيرنا كيفما كانت، فلا نحتقرُ معتقداتِهم حتى لا نجرِّئهم على احتقار معتقداتِنا؛ قال تعالى:” وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ”( سورة الأنعام، الآية 108). وليكنْ شعارُنا الآية الكريمة: “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ” (سورة سبأ، الآية 4)؛ أو على الأقل ليكن دليل تعايشنا خاتمةُ سورة الكافرون: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”.

طربتْ ابنتِي لهذا الحديث غير المألوف. طالبتني بحديث جديد، ووعدتني بمزيد قراءة لفهم ما شرحتُه لها. ثم عادت لتتغنى ببعضِ رفيعِ كلام القوم الحاضِّ على المحبةِ مما حفظته في مزار سيدي علي بن أحمد بوزان؛ إنها رباعيةٌ زجلية من رباعيات ولي صالح آخر من أعلام الصلاح بالمغرب، وعليه قبة دالة بمكناس، إنه سيدي عبد الرحمن المجذوب، وفيها يقول:

أهل المحبة قالوا لي * ايلا بلاك الله بها.
را مقامها عالي غالي* أهل الكتب حاروا فيها.
لا محبة إلا بوصول * ولا وصول إلا غالي.
ولا شراب إلا مختوم* ولا مقام إلا عالي.

زر الذهاب إلى الأعلى