بنكيران واعظاً بنكيران سياسياً… من يقدر عليها غيره؟
الدار / افتتاحية
في كل مرة يثبت عبد الإله بنكيران أنه حيوان سياسي بامتياز. هذه القدرة الاستثنائية التي يمتلكها للظهور بمظاهر ووجوه تختلف من من سياق إلى آخر، مع مهارة خطابية وتقمص محترف، تؤكد دائما أن الزعيم السابق لحزب العدالة والتنمية، وُلد ليمارس السياسة ويسبح في بحارها، وأن النهاية المبكرة لمشواره السياسي ليست سوى خطأ من أخطاء الحزب التي سيندم عليها لا محالة لاحقا. هذا طبعا إذا جزمنا في نهاية مشواره ولم نفاجأ بعودته مستقبلا للتصدي للمهمة القيادية التي كان دائما لصيقا بها. ومناسبة هذا التذكير، هو ظهوره بالأمس مشيعاً وواعظاً بإحدى المقابر، يلقي خطبة لترقيق قلوب المشيعين لكنها كانت مشحونة بالرسائل السياسية الموجهة للداخل والخارج في آن واحد.
لم يفت عبد الإله بنكيران أن يستحضر في غمار موعظته تاريخه الشخصي في التنظيم الدعوي للحزب منذ عام 1976. ووجه بنكيران حديثا مباشرا إلى “إخوانه في الحزب الاسلامي”، قائلا: “يا أبناء الحركة الإسلامية، لم نجتمع لنصبح ميسورين ولنا الأموال والمناصب. لم نأت لهذا الغرض. محبة الله والإسلام والقرآن هي التي جمعتني في البداية وليس حب المناصب. لا يجب علينا أن نتغير. خذوا المناصب واستفيدوا من الامتيازات، لكننا لم نأت لأجل هذه الأمور”. يوجه بنكيران نصيحة كهذه وهو لا يزال في قلب زوبعة أثارها حصوله على تقاعد استثنائي سمين، أثار الكثير من التساؤلات عن مدى أحقيته في ذلك في الوقت الذي كان فيه من وراء إصلاح أنظمة المعاشات بشكل أثر على أجور الموظفين بالمزيد من الاقتطاعات والزيادة في سنوات العمل.
لقد عاد بنكيران وهو يخاطب من أسماهم “أبناء الحركة الإسلامية” لربط الحاضر بالماضي، واستحضار ذلك الإرث السياسي الذي اختلطت فيه دائماً الدعوة بالنضال. إنها رسالة مبطنة إلى نخب الحزب الحالية المقبلة على سنة انتخابية، ربما ستعرف الكثير من التنافس والصراع من أجل الحصول على التزكيات لخوض غمار الانتخابات التشريعية المرتقبة في الصيف المقبل. وبعدها ذلك الصراع المحتمل حول الفوز بالمناصب الوزارية. إن إشارة بنكيران التي يقول فيها “لم نأت لأجل هذه الأمور” تتضمن قدرا كبيرا من النقد المبطن لإخوانه في الحزب، بالنظر إلى أن المفهوم هو عكس المنطوق. فكأن بنكيران يقول صراحة لهؤلاء يبدو أنكم جئتم إلى السياسة فقط لأجل المناصب والامتيازات.
لكن ما هي “المعركة التي لم تنته بعد”؟ حسب ما جاء في موعظة بنكيران. صحيح أنه يربطها بمسألة الدعوة، خصوصا بعد أن أصبح “البعض منا منشغل بالمناصب والنساء والأموال” على حد قوله، إلا أن النبرة والحضور والسياق الذي يتحدث فيه الرجل، يعطي لـ”المعركة” معاني ودلالات واسعة، لكنها لصيقة به كسياسي لا يزال يطمح إلى العودة للميدان ومبارزة الخصوم وتنفيذ التعليمات. كأن الرجل الذي أحاله المعاش الاستثنائي والمؤتمر الاستثنائي للحزب على التقاعد المبكر، يريد أن يبشر مريديه، وما أكثرهم داخل الحزب، بأنه لم يستسلم وأن الظرفية السياسية للبلاد في حاجة إلى شخص مثله، قادر على إخراج الحزب من هذه الورطات التواصلية والسياسية التي دخلها، بسبب مواقف من قضايا مختلفة، كان آخرها الموقف الملتبس من مسألة استئناف العلاقات مع إسرائيل.
لا يجب أن ننسى أن عبد الإله بنكيران كان واضحا في موضوع التطبيع، وهو يؤكد أن إدارة ملف العلاقات الخارجية من اختصاصات الملك التي لا يجب منازعتها، بل ينبغي التعاطي معها بشكل إيجابي في كل اختياراتها لأنها تصب في مصلحة الوطن. لكنه في الوقت ذاته يشدد في موعظته على القول “لا يجب أن نتغير”، في إشارة إلى ما كان الحزب يعتبره في الماضي جزء من الثوابت. لن نبالغ إذا اعتبرنا أن خرجات بنكيران في المقابر لا تختلف كثيرا عن كونها حملات انتخابية داخلية سابقة لأوانها، يوجه فيه الرجل لإخوانه من أولئك المتسابقين على “المناصب والنساء والأموال” ضربات تحت الحزام، ويجدد العهد مع الأتباع والمريدين، ويعلن فيها في الوقت نفسه جاهزيته للمهام السياسية المستقبلية.