البابا فرنسيس من الموصل: “التناقص المأساوي” لمسيحيي الشرق الأوسط “ضرر جسيم لا يمكن تقديره”
في آخر يوم لزيارته التاريخية للعراق، يزور البابا فرنسيس ثلاث مدن شمال البلاد بينها الموصل حيث وصل إليها صباح الأحد، والتي كانت يوما ما معقلا لتنظيم “الدولة الإٍسلامية”، حيث لا يتجاوز عدد المسيحين الآن سوى بضع عشرات الأسر. وقال الحبر الأعظم، أثناء إشرافه على صلاة على أرواح ضحايا الحرب من أمام كنيسة أثرية مدمرة وسط الموصل، إن “التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط إنما هو ضرر جسيم لا يمكن تقديره”.
بعد محطته في النجف وأور، توجه البابا فرنسيس في اليوم الثالث من زيارته التاريخية للعراق شمالا، حيث يحيي قداسا في أربيل سيضم الآلاف، ووصل الحبر الأعظم إلى مدينة الموصل التي عانت على مدى ثلاث سنوات من انتهاكات تنظيم “الدولة الإسلامية”.
ورأى البابا فرنسيس من ساحة حوش البيعة في الموصل حيث ترأس صلاة على أرواح ضحايا الحرب من أمام كنيسة أثرية مدمرة، أن “التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط إنّما هو ضرر جسيم لا يمكن تقديره”.
في الباحة، استقبل البابا بالتحيات والتصفيق، فيما جلس المصلون على مقاعد خشبية أمام منصة وضعت ليجلس عليها الحبر الأعظم إلى جانب مسؤولين كنسيين آخرين، من بنيهم رئيس أساقفة الموصل المطران نجيب ميخائيل موسى.
ورحب البابا في كلمته بدعوة ميخائيل في كلمة ألقاها قبله إلى “أن تعود الجماعة المسيحية إلى الموصل وتقوم بدورها الحيوي في عملية الشفاء والتجديد”.
وصلّى “من أجل ضحايا الحرب والنزاعات المسلحة”، مؤكدا أن “الرجاء أقوى من الموت، والسلام أقوى من الحرب”.
وتحمل هذه المحطة من الزيارة أهمية كبرى، لا سيما أن محافظة نينوى، وعاصمتها الموصل، تشكّل مركز الطائفة المسيحية في العراق، وتعرّضت كنائسها وأديرتها الضاربة في القدم لدمار كبير على يد التنظيم المتطرف.
في الموصل حيث أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” “الخلافة” عام 2014، يتلو البابا صلاة “من أجل أرواح ضحايا الحرب”.
وعندما سيطر التنظيم على المنطقة، أيد البابا فرنسيس استخدام القوة لوقف انتشاره، ودرس إمكان السفر إلى شمال العراق للوقوف إلى جانب الأقلية المسيحية.
ولا تزال آثار الحرب ظاهرة فيها، رغم مرور ثلاث سنوات على طرد التنظيم منها بعد معارك امتدت أشهرا طويلة بين القوات الحكومية العراقية والجهاديين، خلّفت مئات الضحايا ودفعت الآلاف للنزوح.
كان البابا ندد بكلمته السبت من أور في جنوب العراق بـ”الإرهاب الذي يسيء إلى الدين”، مضيفاً “نحن المؤمنين، لا يمكن أن نصمت عندما يسيء الإرهاب للدين. بل واجب علينا إزالة سوء الفهم”.
يأمل عدنان يوسف وهو مسيحي من سكان نينوى “أن تكون هذه الزيارة فاتحة خير لأبناء الشعب العراقي”.
“رفع معنوياتنا”
ويرى الأب جورج جحولة من قرقوش الواقعة على بعد 30 كلم إلى جنوب الموصل أن “هذه الزيارة مهمة جداً لأنها ستساهم برفع معنوياتنا بعد سنوات من المصاعب والمشاكل والحروب”، علما أن أعداد المسيحيين تناقصت جدا على مر العقود بسبب الحروب والازمات.
ولم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من سكانه البالغ عددهم 40 مليوناً بعدما كان عددهم 1,5 مليون عام 2003 قبل الغزو الأمريكي للعراق.
ويلتقي الحبر الأعظم في المدينة القديمة في الموصل التي كانت في يوم من الأيام مركزاً للتجارة في الشرق الأوسط، لكنها الآن عبارة عن ركام، مسيحيي المنطقة.
وفي شوارع الموصل التي لا تخلو من الدمار، ارتفعت لافتات كتب عليها “الموصل ترحب بالبابا فرنسيس”.
ولا يوجد في نينوى ملعب رياضي مناسب أو كاتدرائية لإقامة قداس بابوي، كما يوضح رئيس أساقفة الموصل ميخائيل نجيب لوكالة الأنباء الفرنسية. ويضيف أن “14 كنيسة مدمرة، سبع منها تعود للقرون الخامس والسادس والسابع”.
بين هذه الكنائس، كاتدرائية مسكنته، وهو اسم شهيدة مسيحية في القرون الأولى، تغطيها اليوم حجارة وركام. أما كنيسة القديس شمعون الصفا (القديس بطرس) فمليئة بأكياس قمامة.
“حافز لإرجاع المسيحيين”
وتمنى حسام الخواجة وهو مسيحي من سكان الموصل “أن تكون زيارة البابا حافزاً لإرجاع كافة المسيحيين”. ولا يزال هناك عشرات آلاف النازحين من نينوى لم يعودوا إلى بيوتهم حتى الآن.
ولا تخلو زيارة البابا من تحديات أمنية، وهي تتم وسط إجراءات مشددة. ويعبر البابا خلالها مسافة 1445 كلم، في سيارة مصفحة، أو في طائرة ومروحية خاصة، فوق أراض لا تزال تختبأ فيها خلايا جهادية سرية.
بعد الموصل، يزور البابا بلدة قرقوش. ويستعد سكانها لاستقباله بهدية فريدة تعكس تراث منطقتهم، عبارة عن وشاح صمم له خصيصاً، إضافة إلى استعدادات أخرى من زينة ورايات ترحيباً به.
ولبلدة قرقوش أو بغديدة تاريخ قديم جدا سابق للمسيحية. يتحدث سكانها اليوم لهجة حديثة من الآرامية، لغة المسيح، ولذلك تعدّ محطة هامة في زيارة الحبر الأعظم.
ولحق دمار كبير بقرقوش على يد تنظيم “الدولة الإسلامية” ولا يزال الوضع الأمني متوتراً مع انتشار الجماعات المسلحة التي ترعاها الدولة بأعداد كبيرة في السهول المحيطة.
هناك، يزور البابا كنيسة الطاهرة التي دمرها تنظيم “الدولة الإسلامية”، لكن أعيد ترميمها بالكامل.
“سلام”
وهذه أول زيارة بابوية على الإطلاق للعراق، يحقق فيها فرنسيس حلما لطالما راود البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني.
لكن بالإضافة إلى التحديات الأمنية، تأتي الزيارة وسط تحدٍّ صحي أيضا، مع زيادة بأعداد الإصابات بكوفيد-19، حرمت الحشود من ملاقاة البابا وإلقاء التحية عليه.
في إحدى آخر محطات زيارته، يقيم البابا قداسًا في الهواء الطلق في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق في ملعب يتسع لأكثر من 20 ألف شخص لكن لن يضمّ سوى 4 آلاف. وتنعم إربيل بوضع أمني مستقرّ نسبياً، كما أن وضع البنى التحتية فيها جيّد.
وعندما اجتاح تنظيم “الدولة الإسلامية” شمال العراق، لجأ مئات آلاف المسيحيين والمسلمين والإيزيديين إلى إقليم كردستان العراق الذي كان يستضيف أساسا الأقليات النازحة إثر العنف الطائفي الذي شهده العراق خلال مراحل سابقة تلت الغزو.
كان البابا وصف الإيزيديين في خطاب الجمعة بـ”الضحايا الأبرياء للهمجية المتهورة وعديمة الإنسانية، فقد تعرضوا للاضطهاد والقتل بسبب انتمائهم الديني وتعرضت هويتهم وبقاؤهم نفسه للخطر”.
وفي اليوم الثاني من زيارته التاريخية، التقى البابا السبت في النجف المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني الذي أعلن اهتمامه بـ”أمن وسلام” المسيحيين العراقيين.
ومنذ وصوله الجمعة إلى بغداد، تطرق البابا إلى كل المواضيع الحساسة والقضايا التي يعانيها العراق وليس المسيحيون فقط، قائلاً ” لتصمت الأسلحة! ولنضع حدا لانتشارها هنا وفي كل مكان!”.
المصدر: الدار- أف ب