بقلم : يونس التايب
هل لاحظتم كيف أصبحت سلوكات الأفراد تتميز بالتسرع في تحليل الأمور و بلورة المواقف، و تغير المزاج بشكل مفاجئ وانفعالي، غير موضوعي و غير عقلاني؟
هل لاحظتم كيف ظهرت قدرة عجيبة لدى كثير من الناس على الانتقال، بين عشية وضحاها، من حالة الرضا والإعجاب والقول الجميل في حق الأفراد أو الهيئات، أو في وصف الواقع، إلى حالة من عدم الرضا والغضب والتهجم و النعت بأقبح الأوصاف؟
هل لاحظتم أن ذلك يحدث في أوقات كثيرة، دون أن يكون لهذا التحول أسباب وجيهة أو منطقية، وأحيانا، فقط، بمجرد حدوث أي خطأ عادي، أو ظهور اختلافات بشأن موقف معين، أو صدور رأي لم يعجب، أو اتخاذ قرار لا يخدم مصلحة معينة؟
هل يعقل أن ينطلق بشكل عشوائي و دون سابق إنذار، قصف انفعالي، من كل الجهات، لا تفريق فيه بين الأشخاص وبين الهيئات و بين المؤسسات، و لا بين الفاعلين الخواص والعموميين، “غير اللي جا في الطريق تياخذ حقو” من القول الغليظ ومن الانتقاد وحتى من السب و اللعن و التهجم؟
هل من الضروري أن تكون الإدانة في حق شخص أو هيأة أو مؤسسة، بشكل فوري دون تريث و لا تحقق و لا تواصل و لا حوار؟
هل صارت ذاكرتنا قصيرة لا تحتفظ بحسنات وبأفضال الأيام السابقة، بحيث أنه فور حدوث أي هفوة عادية أو غير مقصودة، أو صدور موقف معين بسبب ضعف إنساني من النوع العادي الذي يمكن أن يقع فيه كل البشر، ينطلق الانتقاد والتجريح والتعريض بالغير، و”عينك ما تشوف إلا النور” كما يقول إخواننا المصريون؟؟
هل صار لكل واحد منا رصيد هائل من القسوة، يجعلنا لا نتسامح، و لا نقبل الاختلاف، و لا نرحم الضعفاء، و لا نتجاوز على من يخطأ؟
إلى ماذا تحيل هذه الحالة بالضبط؟ هل أصبح حبنا لمصالحنا الذاتية على حساب مصالح الناس، متجاوزا حتى للقيم الإنسانية الأساسية و للقانون؟
هل يمكن القول أننا دخلنا في حالة سكيزوفرينيا جماعية، لها أعراض إكلينيكية متقدمة، أبرز مظاهرها أننا أصبحنا نريد الشيء ونقيضه، في الحياة الاجتماعية بين الأفراد، وفي السياسة وفي تدبير الشأن العام وفي الاقتصاد و في التمثلات الثقافية لأشياء كثيرة، ونتحرك في ذلك كله بمنطق، “ما سوقناش…” و”ماشي شغلي…” و”تفوتني و تجي في من بغات … ؟”.
لماذا صار كثير من الناس قادرين بسهولة، بدون حرج و لا حياء، على اعتقاد أشياء معينة في دواخلهم، و جهرا يعبرون عن نقيض ذلك كله ؟
هل هي حالة اضطراب نفسي، تسبب فيها قلق مجتمعي وتوجس من كل شيء، و أصبحت، في زمننا هذا، ترمز إلى خلل في التوازن النفسي و السلوكي؟
هل علينا أن نبحث عن أسباب كل ذلك، في واقع السياسات العمومية التربوية والاجتماعية والاقتصادية، المتبعة خلال السنوات الأخيرة، التي لم تهتم بتحقيق الطمأنينة و نشر القيم الأساسية التي تساعد على حفظ التوازن السلوكي والنفسي للناس؟
أم علينا اعتبار هذا الأمر، نتيجة طبيعية لتراجع مصادر التأطير الكلاسيكية في المجال الفكري و الثقافي والتربوي والاجتماعي، وتعويضها بديناميكيات تأطيرية عبثية وشحنات إعلامية فوضوية، تنطلق من العالم الافتراضي للأنترنيت، تلهب الحواس و تحرض كل النزوعات المادية في النفس البشرية، دون تقديم شرح موضوعي لأي شيء، و لا حلول منطقية للمشاكل، و لا آفاق مستقبلية يمكنها أن تمنح الإنسان المتلقي لتلك “الشحنات الإعلامية”، ما يكفي من الطمأنينة ومن التوازن لفهم محيطه واستشراف مستقبله، وقبل ذلك لفهم ذاته، أولا؟
هل وصلنا إلى مرحلة تجاوز فيها الأمر كونه حالات فردية ليصبح حالة مجتمعية عامة، يمكن أن توصف أنها حالة “شبه مرضية”؟
وبالتالي، هل أصبحنا بحاجة إلى استحضار أدوات التحليل النفسي، لتشخيص الحالة ومحاولة فهم سلوكات كثيرة أصبحت تميز مجتمعنا، من جهة، ثم لوصف طرق العلاج الممكن و طبيعة “الأدوية” القيمية والتربوية المصاحبة والمواكبة، من جهة أخرى؟
أصارحكم بأنني لا أتوفر على أجوبة عن كل هذه الأسئلة، وأقر أن لدي أسئلة كثيرة أخرى، سأتقاسمها معكم في حينه. لكنني، أمام دقة ما تحيل إليه الأسئلة أعلاه، من واقع نفسي جماعي و مجتمعي، لا مصلحة في أن يظل على ما هو عليه هكذا، دون فعل تصحيحي سلوكي إرادي يساهم فيه الجميع، أظن هذه المرة و على عكس العادة، أن الحديث في هذا الموضوع لا زال في بداياته، وعلينا خوض تجربة البحث عن بدايات أجوبة، لأن الطموحات التي نحملها جميعا لبلادنا، في اتجاه التنمية و التطور و التقدم، تفرض علينا الانتباه إلى مركزية ومحورية الإنسان في بناء و تنزيل و إنجاح ما نريده، و لا شيء يمكن أن ينجح بدون إنسان سوي و مؤهل.
كما أقول ذلك دائما، ليس لدينا حل آخر و لا اختيار إلا أن نجيب عن الأسئلة التي تؤرق تفكير كثير من الناس. لنعود بذلك إلى أخذ زمام المبادرة من أجل معالجة الخلل، في كل تجلياته، و تقليص مساحة القلق المجتمعي عبر إعادة التأسيس لتواصل مجتمعي فعال، ينشر الثقة و يعيد الأمل للنفوس.
ويبقى إيماني أن إبقاء شعلة الأمل ضرورة مجتمعية استراتيجية وأن على أرضنا ما يستحق الحياة، و أننا مغاربة و لابد أن ننتصر في نهاية المطاف، لتستمر الأمة المغربية المجيدة في العطاء و تسجيل حضورها الحضاري و الإنساني المتميز.