إسلاميات… الحضور الصوفي في الإبداعات الفنية المعاصرة (2/3)
بقلم: منتصر حمادة
توقفنا في المقالة السابقة عند دلالات تراكم مجموعة من الأعمال الفنية التي تنهل من مرجعية صوفية، من خلال توظيف مجموعة من الأدبيات التراثية، كأعمال ابن عربي، جلال الدين الرومي، الحلاج، ابن الفارض، وأعلام أخرى، تحظى بإقبال من طرف نساء وشباب المنطقة والخارج على حد سواء، وأدرجنا مجموعة أمثلة في هذا السياق. ونتوقف في حلقة اليوم، عند بعض هذه المحددات التي نزعم أنها تساعدنا على قراءة هذه الظاهرة.
بما أن الأمر يتعلق بظاهرة مجتمعية، فهذا يُفيد أنها الأسباب التي أنتجتها، تبقى أسباباً مركبة، حتى نستوعب مقدمات انفتاح شباب المنطقة خلال العقدين الأخيرين، على الأدبيات الصوفية في إبداع وإنتاج وتبني أعمال غنائية، وليس صدفة أن أعمال السماع سوف تعرف انتعاشاً ملحوظاً خلال العقدين الأخيرين، بما هي “موسیقی وجدية صوفية تحمل قيماً دينية أساسها المحبة والجمال، وتظهر الأبعاد الروحانية والتربوية والأخلاقية في الإسلام، ومن ثم ارتفعت أسهم الممارسة الساعية في الإعلام والمهرجانات والفضاءات العامة؛ بل دخل إلى الجامعات وانتقل إلى خشبات المسرح، وأصبح لمصطلحي “السماع” و”الموسيقى الصوفية” رواج وتداول واعتبار”.. “وهذه إشارة دالة في الانتقال من التركيز على ښق المديح النبوي في هذا الفن، باعتباره غير مثير كبير جدال أو اعتراض فقهي، إلى التركيز على البعد الصوفي في اصطلاح السماع”، ضمن إعادة الاعتبار لشق الأحوال الصوفية، خلال الألفية الثالثة كواجهة جمالية روحانية كونية تسهم في تظهير قيم السياحة الرحمة والتعايش والجبال بخلاف الرؤى الأصولانية التشددية للدين” (محمد التهامي الحراق، في الجمالية العرفانية: من أجل أفق إنسي روحاني في الإسلام، منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط 1، 2020، ص 451).
تأسيساً على ما سبق، أحصينا خمسة أسباب على الأقل، تقف وراء هذا الانفتاح، وجاءت كالتالي:
ــ تباين مواقف الصوفية والإسلاموية من أسئلة الفن:
واضح أن الحديث عن المديح النبوي أو السماع أو الأناشيد الدينية، يُصنف بشكل أو بآخر ضمن خانة الأغاني الدينية، وواضح أيضاً طبيعة الفاعلين الدينيين المعنيين بهذه الأنماط الغنائية، وإن كان المستجد سالف الذكر أعلاه، يهم أغاني شبابية معاصرة، تقترب من موضة “الأغاني الشبابية العصرية”، ولكنها توظف أبياتاً شعرية أو إشارات دينية، من المدونة التراثية الصوفية بالتحديد، كما هو الحال مع “فرقة ابن عربي”، من خلال تأمل عناوين بعض أعمالها الفنية، من قبيل: قصيدة “بُحّ الغرام”، وقصيدة “أدين بدين الحب”، وقصيدة “قال لي المحبوب من بالباب”.
ومعلوم أن هذه الفرقة، متخصصة في الترويج لأعمال محي الدين بن عربي، مجتهدة في نقل ملامح التصوف الأندلسي من خلال إحياء الموسيقى الصوفية التي كانت معروفة هناك، ومن خلال استخدام أشعار كبار المتصوفين الأندلسيين والمغاربة والمشارقة، الذين لا زالت أشعارهم تصدح في الآفاق، معلنة معنى الوجد والحب والوصل والفناء والتآخي.
والحال أن الأفق الإبداعي للأعمال الغنائية التي تنهل من المرجعية الصوفية لا يمكن إلا أن يكون مرتفعاً مقارنة مع الأفق الإبداعي للأعمال الغنائية التي تنهل من المرجعية الإسلامية الحركية، لعدة أسباب، منها سبب تمت الإشارة إليه سلفاً، أي التباين في طبيعة الآلات الموسيقية المستعملة، ولكن هناك أسباب أخرى، منها على الخصوص التباين القائم بين المرجعية الصوفية والمرجعية الإسلامية في التعامل مع قضايا الفن والغناء، أو التباين الجلي في طبيعة قصائد تلك الأعمال الغنائية، حيث حضور الأفق الإنساني في أعمال السماع الصوفي، مقارنة مع خطاب الوعظ والإرشاد، أو خطاب الترغيب والترهيب في الأشرطة الفنية الصادرة عن تلك الجماعات، سواء كانت دعوية أو سياسية أو قتالية، وغالباً ما تكون أشرطة دعائية للمشروع الإيديولوجي المعني، كما نعاين مع الأشرطة الخاصة بتنظيم “القاعدة” أو تنظيم “داعش”، فالأحرى ما نعاين مع الأشرطة الفنية الخاصة بالحركات الإسلامية الدعوية والسياسية.
نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أن الرؤية الإسلامية الحركية الضيقة للفن، تندرج ضمن رؤية ضيقة أكبر، للمشروع الإسلامي الحركي، في تفاعله وتعامله مع قضايا أخرى، من قبيل الدين والسياسة والفكر والمرأة والجمال.. إلخ؛ بمعنى أن تلك الرؤية الضيقة تحصيل حاصل، لأنها تنهل من سياج دغمائي مغلق سلفاً، يُسطر معالم تعامل المتديّن المعني مع تلك القضايا.
ــ تباين تعامل الأدبيات الصوفية والأدبيات الإسلامية التقليدية مع قضايا المرأة:
جاء في الأثر الصوفي، عن الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي: “المكان الذي لا يُؤثث، لا يُعول عليه”، ولعل هذا الأثر يُلخص رؤية وسمو تعامل الأدبيات الصوفية مع مكانة المرأة، مقارنة مع تعامل ما يمكن الاصطلاح عليه بالفقه الإسلامي الحركي، أي الأدبيات التي صدرت عن الحركات الإسلامية، منذ أولى مراحل التأسيس، مع جماعة الإخوان المسلمين، وتلخصها هذه الفقرة من أعمال مؤسسة الجماعة حينها، حسن البنا، موقفه من تعليم المرأة، وجاء فيها: “ومن حُسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى عنه لهن من لوازم مهمتهن كالقراءة والكتابة والحساب والدين والتاريخ – تاريخ السلف الصالح رجالاً ونساءً وتدبير المنزل والشئون الصحية. أما المقالات في غير ذلك من العلوم التي لا حاجة للمرأة بها فعبث لا طائل تحته. ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة، وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة للمنزل أولاً وأخيراً. وليست المرأة في حاجة إلى التبحر في دراسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس” (أنظر: مجموعة رسائل حسن البنا، دار الصحوة، القاهرة 2012، ص 316).
واضح أن مجرد عقد مقارنة أولية بين الأفق الإنساني الكوني لمقولة ابن عربي والأفق الإسلامي الضيق لمقولة حسن البنا، تجعل المتلقي يحصل فكرة أولية عن الفوارق الجلية بين المرجعتين، وتوجد هذه الفوارق، ضمن أهم أسباب انفتاح نساء المنطقة المجال الإسلامي (العربي، الفارسي، التركي، المالاوي.. إلخ)، ونساء المجال الغربي، على الأعمال الصوفية، وليس صدفة أن الأفق النظري للباحثة الدنماركية شيرين خانكان، والذي خوَّل لها الاشتغال على قضايا “النسوية الإسلامية” والتصدي لظواهر الإسلاموفوبيا والإسلاموية، وغيرها من القلاقل النظرية والعملية، أفق ينهل من مرجعية صوفية، وتحديداً من مرجعية أعمال ابن عربي كما أشارت إلى ذلك في كتابها الهام الذي ننصح به، وجاء تحت عنوان: “المرأة مستقبل الإسلام”.
ولهذا نعاين حضور وانفتاح المرأة في المنطقة وفي الخارج على الأعمال الفنية الصوفية، في سياق انفتاحها على الأدبيات الصوفية، مقابل ما يُشبه النفور من الخطاب الإسلامي الحركي، بسبب مواقف هذا الأخير من التعامل مع قضايا المرأة، أقله ما نعاينه في تعامل الخطاب السلفي الوهابي، وباقي أنماط التديّن الحركي.
ــ التماهي بين التديّن والفن:
من الصعب إحصاء القواسم المشتركة بين الخطاب الديني والخطاب الفني، وسبق للمفكر البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش، أن اشتغل على بعض الإشارات هنا في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، معتبراً مثلاً أن ما يُخبرنا الفن “شيء يفوق قدرتنا على التصديق، كأننا إزاء رسالة دينية، كما هو الحال مع اللوحات الجصية اليابانية القديمة، أو قطعة من فن الأرابيسك الإسلامي على مدخل فناء قصر الحمراء بغرناطة، أو قناع من جزر الميلانيزيا، أو رقصات قبيلة في أوغندا، أو لوحة يوم الحساب لمايكل أنجلو.. أو أغنية روحية زنجية، ولسوف نجرب شيئاً غامضاً ملغزاً فوق المنطق والمعقول كما تشعر في الصلاة: ألا يبدو عمل من أعمال الفن التجريبي لا عقلي ولا علمي كأنه شعائر دينية؟ إن اللوحة الفنية بشكل ما، هي نوع من أنواع الشعائر مرسومة على قماش، كما أن السمفونية شعائر لحنية” (لمزيد من التفصيل، أنظر: علي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، إصدارات مجلة النور، الكويت، ومؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات، ميونيخ، توزيع مؤسسة العلم الحديث، بيروت، ط 1، 1994).
بالنسبة للشباب المتأثر بالأعمال الغنائية، والمتعطش لتوظيف موروث ديني في تلك الأعمال، فإنه يجد ضالته أكثر في أدبيات “تيار الحقيقة” مقارنة مع أدبيات “تيار الشريعة”، أو قل أدبيات أهل التصوف مقارنة مع أدبيات أهل الفقه في معرض النهل والاستئناس والتوظيف، إلى درجة أن بعض الأعمال الغنائية التي تنهل أشعارها من أدبيات صوفية، تحظى بتفاعلات من غير المسلمين، فالأحرى من المسلمين، كما اتضح ذلك في العديد من المحطات، لعل أشهرها، ما كانت تحظى به أعمال رائد فن القوالي، المنشد الباكستاني نصرت فاتح علي خان، سواء في حفلاته الغنائية في الدول الغربية، أو في توظيف بعض أعماله الفنية في بعض الأعمال السينمائية، أو تعاونه مع بعض رموز الغناء العالمي، ومنهم المطرب البريطاني بيتر غابريال المعروف بدفاعه عن قضايا حقوق الإنسان، وصاحب أغنية “بيكو” الشهيرة، ضد الميز العنصري لنظام جنوب إفريقيا.
يرى نصرت فاح علي خان أن “الموسيقى لغة عالمية بجوهرها، ولا يحتاج المرء فهم الكلمات لتقدير موسيقاه. أنا لست صوفياً وإنما أتابع الصوفية. هذه قصة توضح ما أعنيه: ذات يوم جاء رجل إلى أبي وطلب منه أن يغني له، لكن ليس لديه سوى روبية واحدة. قال له أبي حسنا سأغني لك مقابل روبية واحدة. وأخذه إلى ساحة مكشوفة، جلسا وسطها وطفقا يغنيان. وإذا بالساحة تمتلئ بالبشر. لم يعرفا من أين جاء هذا الحشد من الناس. هذه هي الصوفية. لم يكن الأمر حب أبي للمال وإنما للموسيقى التي كانت تغمر كل كيانه” (أنظر: عبد القادر الجنابي، في الذكرى العاشرة لرحيل نُصرت علي خان، موقع “إيلاف”، 9 ديسمبر 2007).
إذا انطلقنا من أرضية نظرية مفادها أنه ثمة قواسم مشتركة بين الدين والفن، في السمو والرقي وتغذية الروح والبحث عن الذات وتأسيس المشترك الإنساني، فإن الخطاب الإسلامي المعني بتكريس هذه القواسم المشتركة، نجده في الأدبيات الصوفية بالدرجة الأولى، مقارنة مع باقي أنماط التديّن، إلى درجة جعلت ملحنين يشتغلون في أعمال غنائية عصرية، لا علاقة لها بالمديح أو السماح، ينخرطون في أعمال فنية تندرج في الإنشاد الديني حصراً، وتحديداً، الإنشاد الذي ينهل من الأدبيات الصوفية، ومن ذلك بعض أعمال الملحن المصري بليغ حمدي رفقة المنشد الصوفي النقشبندي، وفي مقدمة تلك الأعمال، قصيدة “مولاي إني ببابك قد بسطت يدي”.
كما أن أغلب الفرق الموسيقية المصنفة في خانة فرق السماع الصوفي أو المديح النبوي، ينتمي أعضاؤها إلى طرق صوفية، أو من أتباع ظاهرة “ما بعد الطرقية”، ونقصد بما بعد الطرقية، تبني الخطاب والعمل الصوفي من طرف متديّن ما، دون الانتماء بالضرورة إلى طريقة صوفية، ومن بين الأمثلة في هذا السياق، يمكن أن نذكر خالد محمد عبده من مصر، إريك جوفروا من فرنسا، محمد التهامي الحراق من المغرب، ومجموعة من الأسماء.
نتوقف عند بابي أسباب هذا الانفتاح في الجزء الثالث والأخير غداً بحول الله.