سلايدرفن وثقافة

إشارات سينمائية أمريكية للمشاركين في الاستحقاقات الانتخابية المغربية

منتصر حمادة

جاء في الأثر أنه “يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”، والنهر هنا، إحالة على الفن، أما البحر، فإحالة على ما ينشره أهل الفكر والدين وحقول أخرى، وهذا إذا صحّ الحديث عن أن الفن هنا، ثانوي الأهمية مقارنة مع قضايا الفكر والدين.
والفن هنا أيضاً، إحالة على عدة مجالات، من قبيل المجال المسرحي والموسيقي وإن كنا سنتوقف هنا عند نموذج يهم المجال السينمائي، من خلال الحديث عن فيلم سينمائي، من إنتاج مؤسسة هوليود، ولكن بعض الإشارات التي جاءت فيه، تلخص العديد من أوضاع الساحة هنا في المغرب، ذات الصلة بأداء الحكومة المغربية، أو الحكومات المتعاقبة، وذات الصلة أيضاً بتحولات قيمية وتحولات تهم أنماط التديّن، ضمن إشارات أخرى.
والملاحظ أن الفيلم ليس مخصصاً أساساً لهذه القضايا، أي تقييم وتقويم أداء الحكومة المغربية، والتوقف عند تحولات القيم، وإن جاءت بعض الوقفات التي يمكن قراءته في هذا السياق، إضافة إلى أنه صدرت بعض الانتقادات الموجهة ضد الفيلم، منها بعض رسائله، كانت متأثرة بنبرة استشراقية، لولا أن قراءة مضامين الفيلم، رسائله، تفيد أنه حتى لو صحّ ذلك، فإن النقاط الإيجابية التي تضمنها، تشفع له لكي يكون بعيداً عن تصنيفه في خانة الأعمال الاستشراقية.
وقبل التوقف عند الإشارات التي تهمنا هنا في المغرب من الفيلم، لا بد من ورفقة تعريفية وبعض الملاحظات العامة بداية.
تتوزع قصة الفيلم على ثلاثة وقائع موزعة على المغرب واليابان والحدود الأمريكية ــ المكسيكية: سائحة أمريكية، في إحدى قرى الهامش بالمغرب، تصيبها طلقة طائشة، من بندقية، بسبب تفاعل غير مقصود لطفل مغربي، أخذ البندقية من الأب، الذي حصل عليها، هدية صداقة من سائح ياباني (الذي لديه يعاني مع ابنته المريضة نفسيا).
براد بيت هو زوج السائحة، وسوف يتفرغ كلياً لتبعات إصابة زوجته بهذه الطلقة الطائشة، في جهة الكتف، وقد تركا الأبناء عند مربية مكسيكية أوقفتها سلطات الحدود لأنها لا تملك أوراق إقامة، رغم كونها تقيم منذ 16 سنة في أمريكا، لكنها عبرت الحدود من أجل إحياء صلة الرحم مع العائلة عبر بوابة المشاركة في حفل زفاف، رفقة الأطفال.
صدر الفيلم في سنة 2006، ومن خلال المختصر أعلاه، يتضح أنه يهم ثلاثة قضايا متشابكة فيما بينها، جرت في المغرب واليابان، وفي الحدود الأمريكية ــ المكسيكية، يصعب اختصار رسائله. كأنه عمل إبداعي، يخاطب المشاهدين، أيا كانت مرجعياتهم.
العمل من بطولة ممثل أمريكي، براد بيت، وممثلة أسترالية، كيث بلانشت، ومن إخراج مبدع إسباني من أصل مكسيكي، إلخاندرو غونزاليس إيناريتو، كأن هاجس المشترك الإنساني، خاصية تميزه، شكلاً ومضموناً، ضمن نقاط أخرى، ومع أن السائد في مشاهدة الأفلام، أن تكون فرصة للاستراحة، بما فيها الراحة البصرية، وفرصة لتغذية قيم الجمال، وأحياناً فرصة للابتعاد عن الهم الفكري والنقدي وغيره، ولكن الأمر مختلف مع الفيلم، لأنه غالبا ما سيتسبب في إثارة مجموعة أسئلة عند المشاهدين، ومنها الأسئلة أو الإشارات الخاصة بنا هنا في المغرب، كما سوف نتوقف عندها.
العولمة، المشترك الإنساني، التباين بين أداء فئة صالحة من المجتمع وأداء الحكومة، الهجرة السرية، الكرم والضيافة، الأزمات الدبلوماسية المجانية، التضخيم من وقائع تافهة بسبب هواجس السلطة والهيمنة، إعلام الرداءة الذي لديه قدرة كبيرة على التزييف والتضخيم والتلاعب بالرأي العام. إلخ، هذه بعض القضايا التي كانت حاضرة في الفيلم، وبعضها حاضر في أعمال المخرج في أعمال أخرى.
من الجوائز الكثيرة التي حصدها الفيلم، جوائز وازنة حول الموسيقى التصويرية، والملاحظ أنها انتصرت بدورها للمشترك الإنساني، حيث نجد الموسيقى العربية، الموسيقى الإسبانية، والموسيقى اليابانية، وأيضاً، موسيقى “التكنو”، الخاصة ببعض العلب الليلية. وفي الشق الخاص بالموسيقى العربية، كان الحضور متميزاً إما مع آلة العود أو آلة القانون، وقد كان خياراً موفقاً من المخرج.
نأتي لثلاث إشارات على الأقل تهمنا كمغاربة في الفيلم، لأنه عددها كبير، وبعضها يتقاطع بالطبع مع قضايا الخارج، وهذا أمر مقصود، أخذاً بعين الاعتبار عنوان العمل، أي “بابل”، الذي يمكن أ، يُقرأ من منظور فلسفي أو من منظور لساني، أو من عدة زوايا، ولكن ما يهمنا أكثر هذه الإشارات الثلاث الخاصة بالسياق المغربي حصراً:
أ ــ في نهاية الفيلم، أثناء نقل السائحة عبر طائرة هيليكوبتر، أهدى براد بيت مبلغاً مالياً محترماً لشاب مغربي ساعده في المحنة، من باب رد الجميل، لكن الشاب رفض المبلغ، رغم أن وضعه الاجتماعي يغري بتقبل المساعدة، لكنه كان صارماً في رفض المبلغ، وقد تضمن سيناريو الفيلم، جلسة حوارية بين الرجلين، حيث سأل براد بيت الشاب المغربي إن كان من الذين يطبقون تعدد الزوجات، فردّ عليه الشاب أنه بالكاد يكابد من أجل تحمل مسؤولية الارتباط لزوجي بامرأة واحدة فقط، وبالتالي لا يفكر في موضوع التعدد، وبالرغم من تلك المكابدة، لأنه متزوج فعلاً، ويقيم يف قرية نائية، رفض قبول ذلك المبلغ المالي المحترم، لأنه اعتبر أن ما قام به في سياق مساعدة براد بيت من أجل علاج زوجته، واجب إنساني، لا علاقة له بإكرامية أو تعويض مالي أو شيء من هذا القبيل، وهو رد فعل، يُفسر موقف السائح الياباني الذي أعجب بأخلاق ضيف مغربي، وأهداف بندقيته، وكانت إحدى أسباب تشعب أحداث الفيلم.
ب ــ هناك لقطة عابرة ولكنها دالة جاءت في الفيلم، في المشاهد الخاصة بالمغرب، حيث صور المخرج كوخاً في قرية نائية، وعلامات الفقر والهشاشة غنية عن التعليق، وبالرغم من ذلك، كان حائط الكوخ، في الداخل، يضم مقالات مقتطعة من صحف رياضية، تظهر إنجازات بعض الرياضيين المغاربة، منهم الفريق الوطني لكرة القدم: رغم أجواء الهشاشة الاجتماعية، المواطن هنا، الفقير مادياً، كان غنياً “مواطناتيا” وغنياً بحبه للوطن، في تناقض صريح مقارنة مع التواضع في الأداء الحكومي.
ج ــ صدر الفيلم في سنة 2006، في عز الاعتداءات “الجهادية” على السائحين في مصر، ولذلك، بعد مرور السائحين على القرية المغربية، أعرب أحدهم عن الخشية من أن تتكرر أحداث مصر، خاصة أن الأمر يتعلق بقرية مغربية نائية، ولكن تلقى الرد في الفيلم، بأن الأمر يتعلق بالمغرب، وأن هذه الأمور مستبعدة، لولا إن واقعة إملشيل، أي حادث مقتل سائحتين دانماركيتين، في ديسمبر 2018، تشوش على ذلك الجواب، لأنه جرت تحولات منذ تلك الفترة حتى اليوم، بدليل ما جرى في تفاعلات نسبة من النخب الفكرية والدينية مع زيارة بابا الفاتيكان للمغرب في مارس 2018.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن تفاعل بعض الأمريكيين مع تلك الرصاصة الطائشة، وصل إلى درجة التفكير في إمكانية إدراجه ضمن عملية إرهابية، لولا أن شهادة براد بيت وغيره، أطفت هذه الرداءة في التأويل.
إشارات عابرة، صدرت منذ عقد ونيف، ولكنها تتطلب كثير تأمل، ونحن على بعد أسابيع من الاستحقاق الانتخابي.

زر الذهاب إلى الأعلى