الرأيسلايدر

من أجل حكومة تكسب رهانات التنمية و التأهيل الاجتماعي

بقلم: يونس التايب

مساء يوم الجمعة 10 شتنبر، أعادت القناة الثانية بث حلقة سابقة من برنامج “رشيد شو”، كانت قد بثت بتاريخ 17 يناير 2020، و خصصت بالكامل لضيوف كلهم مكفوفين. و لأنني لم يسبق أن شاهدت تلك الحلقة، و اعتبارا لما أحمله من تضامن تلقائي مع الأشخاص فاقدي نعمة البصر و ذوي الاحتياجات الخاصة، لم أغير القناة و ركزت مع برنامج لا أتابعه إلا نادرا في الأيام العادية. أسرد هذه التوطئة لأضعكم في صورة لقطتين قويتين من البرنامج، وجدت أنهما تحملان دلالات إنسانية مؤثرة و قوية في السياق السياسي الجديد.

أما اللقطة الأولى، فكانت لطفل اسمه “حبيب”، لا يتجاوز 11 سنة، يدرس في القسم الثالث ابتدائي، في مدرسة بجماعة بوقنادل بعمالة سلا. حبيب ظهر خجولا، يبتسم على استحياء و يجيب باقتضاب شديد. حين سأله منشط البرنامج عن طموحه، قال حبيب : “بغيت الناس يدعيو معايا باش فاش نكبر نخدم و نخرج والدي من الفقر …!”. و أما اللقطة الثانية، فكانت لشاب مكفوف اسمه توفيق البوشيتي، يمتهن الغناء و يتابع تعليمه العالي حيث حصل على الماستر، و يهيئ الآن الدكتوراه. في بداية كلامه ألح توفيق على أن ذوي الاحتياجات الخاصة يتميزون بروح الإصرار و الإرادة، فقط يجب على محيطهم أن يعينهم لتحقيق ذواتهم. و ذكر بمقولة نسبها إلى جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، في حديثه عن فئة المكفوفين، بما معناه : “أنا عينكم التي تبصرون بها…!”.

أصارحكم أنني لم أستطع إكمال الحلقة، و غادرت الغرفة لأخفي علامات تأثري أمام شموخ هاذين الشابين المغربيين، و أمام صدق كلامهما و عمق معانيه. و إذا كان من المؤكد أن بث تلك الحلقة من البرنامج، كان صدفة خالصة، إلا أنني اعتبرتها صدفة أتت لتتيح لنا الربط بين هشاشة الوضع الاجتماعي لعدد من مواطنينا، كإرث تركته لنا الحكومة السابقة، و بين الأمل الذي يحمله أفق تشكيل حكومة جديدة نريد منها أن توقف النزيف الاجتماعي الذي خلفته اختيارات اقتصادية مجحفة في حق الطبقة المتوسطة و الفئات الهشة، و خلفه أسلوب تدبير إقصائي ميز قطاعات اجتماعية، استمرت لعشر سنوات تنتصر لأولوية “الانتماء الحزبي”، عوض الانتصار للمواطنة.

في هذا الإطار، و أنا أتمنى للسيد عزيز أخنوش، رئيس الحكومة المكلف من طرف جلالة الملك حفظه الله، النجاح في مشاوراته لتشكيل سلطة تنفيذية قوية، أملي أن تكون المسألة الاجتماعية على رأس الأولويات، بداية بتنزيل ورش الرعاية الاجتماعية الذي أمر بها جلالة الملك، مرورا بوضع منظومة جديدة لمواكبة الفئات الهشة، و وصولا إلى فتح أفاق الإدماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمعرفي أمام الشباب المغربي، سواء من ذوي الاحتياجات الخاصة أو من عموم الفئات الهشة، ضمن التصور العام للنموذج التنموي الجديد.

و هنا، لا بد من إثارة الانتباه إلى أن المطلوب ليس أن تأتي الحكومة إلى البرلمان لعرض أرقام “زيادة” ميزانية التعليم و الصحة، و تقديمها كدليل على أنها حكومة “اجتماعية بامتياز”، كما كان يردد ذلك باستمرار رئيس الحكومة السابق خلال خمس سنوات. تلك مقاربة لم تكن دقيقة و لا ناجعة، لأنها كمية و ليست كيفية، إضافة إلى ما فيها من خلط بين الخدمات الأساسية الواجبة لكل أبناء الشعب في التعليم و الصحة، فقيرهم و غنيهم، في إطار مدرسة عمومية و مستشفى عمومي، و بين الفعل الاجتماعي الموجه إلى الفئات الفقيرة وفق مقاربة مجالية و ترابية، تستبق الاحتياجات و تضبط الاستهداف. لذاك، على الحكومة المقبلة إبداع تصور جديد لهندسة الفعل الاجتماعي العمومي، من جهة، عبر استثمار الإضافة الاستراتيجية التي يشكلها السجل الاجتماعي الموحد، الذي سيضبط معايير استحقاق الدعم و الخدمة الاجتماعية، و يحل مشكل الاستهداف؛ و من جهة ثانية، عبر إعادة هيكلة آليات التدخل العمومي في المجال الاجتماعي و الإنساني، لفائدة الفقراء و المعوزين و الأيتام و الأرامل و ذوي الاحتياجات الخاصة، لتحقيق التراكم التدبيري الممكن و التنموي المرجو.

ألح على نقطة “هندسة الفعل الاجتماعي العمومي”، لقناعتي أن الحكومة المقبلة، ستستفيد كثيرا إذا نجحت في استرداد الحس الإنساني و الاحترافي لتحيي به آليات الفعل الاجتماعي العمومي، تماما كما كان الحال خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة التي شهدت برامج رائدة لمؤسسة محمد الخامس للتضامن، و شهدت إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، سنة 2005، التي كانت و لا تزال حاضنة تجديد incubateur d’innovation لإبداع أنماط حكامة تدبير التنمية، مكنت من تقديم إضافات استراتيجية لتطوير تدبير محاربة الفقر والهشاشة، و دعم الإدماج عبر مبادئ “الالتقائية Convergence” في السياسات و البرامح، و”الاستهداف Ciblage” لتحقيق أفضل الوقع و الأثر، و “البعد الترابي في التدخل Approche territoriale”، و”المقاربة التشاركية و الحقوقية و مقاربة النوع Approche participative, approche droit et approche genre” من أجل تحقيق التثمين المطلوب للرأسمال البشري.

أقول هذا لأنني عايشت، من مواقع مسؤولية مختلفة، كيف شكلت المبادرة الوطنية و برامج مؤسسة محمد الخامس، ثورة في ثقافة تدبير الشأن الاجتماعي في الجهات و الأقاليم، و ساهمت في تطوير الفعل العمومي في مجال التنمية المحلية، و أدمجت البعد الاجتماعي في السياسات العمومية القطاعية، بشكل ساعد على استباق الأزمات و تدبيرها بشكل عقلاني عبر مقاربة تعاقدية و تشاركية. للأسف، في منتصف الطريق نحو تحقيق أهداف البناء التنموي الوطني، مع بداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة، نزل بنا منطق “حزبي، أولا!” ليغير اتجاه البوصلة و تصبح مصلحة تيار حزبي معين، ضاغطة على الفعل العمومي في القطاع الاجتماعي، و تتخلى مؤسسات عمومية عن التركيز اللازم في تقديم خدماتها، و تدخل مسألة الانتماء السياسي و القرب الإيديولوجي في قلب المعادلة، و يتم التغاضي عن استغلال هشاشة وضع مواطنين لكسب أصوات في الانتخابات بتأثير “واجهات” جمعوية، ظاهرها الإحسان و باطنها “صوتك فرصتك” لتقوية حزبك. والتاريخ يشهد أن ذلك المزج بين المصلحة الحزبية و المصلحة العامة للناس، سهلته تعيينات لمسؤولين على رأس مؤسسات عمومية في القطاع الاجتماعي، تبين فيما بعد أن عنصر الانتماء و الولاء الحزبي حاضر بقوة لديهم، في مقابل تهميش عدد من الأطر و الكفاءات التي تم أقصيت من مسؤوليات عمومية مستحقة في عدد من القطاعات.

الآن، ما يهمنا هو المستقبل الذي يستوجب فيه وقف نزيف العجز الاجتماعي من طرف حكومة نريدها أن تنجح بامتياز في تنزيل الأوراش الملكية الكبرى التي وضعها عاهل البلاد لتحقيق كرامة المواطن المغربي، بعد أن عجز عن ذلك التدبير الحزبي لمؤسسات العمل الاجتماعي، خلال عشر سنوات. و يحق لنا أن نتطلع إلى فعل حكومي يحمل ديناميكية قادرة على حل مشاكل المغاربة، و خلق واقع يشعر فيه الشاب توفيق و الطفل حبيب، و كل من هم في نفس وضعيته، بأن المؤسسات الاجتماعية العمومية تشتغل لتكون أعينهم التي يرون بها، و ينالون عبرها الرعاية ليدرسوا و يتعلموا حرفة و تتقوى قابلية التشغيل لديهم كي يندمجوا في مجالات تتماشى مع وضعهم الخاص.

من المؤكد أن الإرث الذي تركته الحكومة السابقة ثقيل، و أن الواقع فيه عدد كبير من قضايا التهميش الاجتماعي التي عجز القطاع الوصي عن التعاطي معها بفعالية و رؤية استراتيجية تستوعب الأشكال المستجدة منها. لذلك، حان الوقت لنزيل آثار المنطق الحزبي الضيق في تدبير المجال الاجتماعي، و نستثمر نقط القوة التي يشكلها توفر بلادنا على برامج واعدة و مبادرات وطنية رائدة، يتعين الاستفادة مما راكمته من تجارب و مناهج عمل تمت بلورتها، حتى ننقل إلى باقي الآليات العمومية للإدماج، كل مقومات النجاعة الكفيلة بجعل هدف الاستثمار في الرأسمال البشري، موجها أساسيا للفعل العمومي الاجتماعي.

المسؤولية كبيرة، و على من سيحضون بشرف خدمة أبناء هذا الوطن، أن يكونوا في مستوى الثقة المولوية، أولا، و أن يجعلوا من مواقع المسؤولية الحكومية، و مواقع المؤسسات والوكالات التابعة لها، فرصة لإبراز الكفاءة في التدبير و القدرة على التجديد، حتى نسير في اتجاه غد يدمج كل أبناء الوطن في ديناميكية التأهيل و الأمل والبناء الوطني.

زر الذهاب إلى الأعلى