بقلم : يونس التايب
من دون شك، سيعكف المأتمنون على المشروع الوطني ببلادنا، و كل الحاملين مسؤولية الدفاع عن أمننا القومي، على دراسة تفاصيل قرار محكمة العدل الأوروبية الأخير، من أجل تحليل المنطلقات التي تأسس عليها، و تقييم أسباب صدوره في السياق الزمني الحالي، و استنباط المرامي الخفية من وراءه، و استشراف النتائج التي سيطمح البعض لتحقيقها على أساس ذلك القرار.
و أكيد أن كل أبناء الوطن، بقواه الحية و فعالياته السياسية و الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية، سيتفاعلون مع ما قرره قضاة المحكمة الأوروبية باللوكسمبورغ. فقط، علينا أن نتحلى في ذلك المسعى، بهدوء الموقنين من أن قرار محكمة العدل الأوروبية لا يستحق أي تضخيم في قيمته، لأنه لا يكتسي صبغة المفاجأة و لا يرقى إلى أن يشكل بالنسبة إلينا مصدر قلق استثنائي، وذلك لأربعة أسباب على الأقل، هي :
– أولا، القرار يهم الاتحاد الأوروبي و دوله، أكثر مما يهم المغرب. وعلى الاتحاد أن يتفاعل مع قرار يطعن في تدبير سيادي اتخذته مؤسساته حين أبرمت اتفاقيات اقتصادية مع المملكة المغربية. أما نحن، من الناحية الاقتصادية الصرفة، تظل أمامنا عشرات الفرص لإبرام اتفاقيات زراعية و تجارية أخرى مماثلة، مع دول كبرى عديدة تنتظر تلك الإمكانية، و هي مستعدة لمنحنا شروطا تفضيلية أكبر.
– ثانيا، هو قرار يشبه قرارات سابقة صدرت عن نفس المحكمة، و قد يحمل المستقبل قرارات مماثلة، ستفرضها نفس الأسباب التي تحرك محكمة عدل أوروبية لا زالت أسيرة مقاربة سنوات السبعينيات، و ما كان فيها من قرارات أممية خضعت لمنطق الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي الشيوعي و المعسكر الغربي، و لمنطق التحريض الديبلوماسي الذي كانت تقوم به “الأنظمة و الجمهوريات الثوية”، أكثر مما خضعت لمنطق القانون الدولي أو لمنطق تحقيق تسوية عادلة لمخلفات الاستعمار الذي مزق الدول و ألغى حدودها الجغرافية التي كانت قائمة قبل الاستعمار، و اقتطع الأراضي من أصحابها و أضافها لترسيم حدود دول أخرى بدون وجه حق، و أباد بسبب ذلك ملايين من السكان الأصليين في إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية.
– ثالثا، محكمة العدل الأوروبية تصر بهذا القرار الجديد، على تجاهل ما يتحقق، كل يوم منذ 45 سنة، من تنمية مستدامة و مسيرة ديمقراطية على أرض الصحراء المغربية، تتجلى في إنجازات تنموية يبدعها أبناء المغرب، من الصحراويين ومن غير الصحراويين، كما تتجلى في ديناميكية سياسية ومؤسساتية ينخرط فيها أبناء أقاليمنا الجنوبية، كان آخرها الانتخابات التشريعية و الجهوية و المحلية التي نظمت يوم 8 شتنبر 2021، و عرفت نسب مشاركة بلغت 58,30% في الداخلة وادي الذهب، و 63,76 % في كلميم واد نون و 66,94 % في العيون الساقية الحمراء، و أفرزت نخبا صحراوية من أبناء المنطقة، هي من تستحق أن يقول عنها قضاة المحكمة الأوروبية أنها تمثل بشكل ديمقراطي ساكنة الصحراء المغربية، و تسير فيها مجالس الجهات و الجماعات و مجالس العمالات والأقاليم و الغرف المهنية المختلفة، داخل النسق المؤسساتي الديمقراطي الذي ينظمه دستور المملكة المغربية.
– رابعا، المغرب لما اختار طريق استقلالية القرار السياسي والديبلوماسي، و عزز حضوره الاقتصادي في الساحة الدولية، و الإفريقية بصفة خاصة، و قرر وضع أساسات نموذج تنموي جديد يرتكز على الأولوية الوطنية و على ضرورة تثمين الرأسمال البشري المغربي، أصبح يزعج قوى أوروبية لم تعتد على رؤية دول الجنوب في وضع آخر غير وضع التبعية الاقتصادية و السياسية. لهذا، هم الآن يواجهون طموحاتنا بكل السبل، و يحاولون التضييق علينا و وضع “العصا في الرويضة” لإجبارنا على “الجلوس للطاولة” و الإذعان لإملاءاتهم، و التنازل عن سيادتنا و حقنا في اختيار ما يناسبنا من شراكات اقتصادية و اختيارات استثمارية، و التراجع عن قرارات و مواقف ديبلوماسية لا تروقهم.
في مقالات سابقة، تحدثت عن أن الظرف الدولي الراهن سيفرض علينا مجابهة تحديات جديدة و متنوعة، لأننا في قلب ديناميكيات جيوستراتيجية معقدة، و نتأثر بالضرورة بصراع مصالح و تجاذبات القوى الكبرى المتنافسة و المتصارعة في العالم، التي تسعى لتعزيز اقتصادياتها و توسيع مجال هيمنتها السياسية و الثقافية. كما أن هنالك دولا تريد استدامة حضوتها التجارية و مراكز تواجدها النفعي، لذلك جعلت من المغرب هدفا أساسيا تتابع كل صغيرة وكبيرة في تحركاته الخارجية، و ترصد واقعه السياسي والحقوقي بهدف إيجاد أي نقطة ضعف، أو خلل معين يمكن تأويله خارج سياقه، و استغلاله للتحريض ضد بلادنا و الضغط عليه إعلاميا و سياسيا و ديبلوماسيا.
لهذه الاعتبارات، أعتقد أن علينا أن نتعامل مع قرار محكمة العدل الأوروبية الأخير، و مع جميع تجليات الحروب الصامتة التي تشنها علينا عدد من اللوبيات الأوروبية، بهدوء و روح إيجابية. بل، ربما علينا اعتبار كل ذلك فرصة جديدة، تنضاف إلى ما قدمته لنا القارة العجوز في القرار المجحف للبرلمان الأوروبي في عز أزمتنا مع إسبانيا. و لأنها فرصة، علينا استثمارها بشكل جيد لترسيخ الوعي الوطني بأن العالم القديم انتهى، و أن المطلوب هو الاستعداد و تقوية القدرات لفرض الذات في عالم جديد يتشكل بمنطق تميزه شراسة الاصطفافات و التحالفات بين الأطراف الفاعلة دوليا، و تحول تكنولوجي و طاقي جديد، و انعطافة تاريخية على المستويات السياسية و الاقتصادية و العسكرية و الجيوستراتيجية و البيئية و الديموغرافية و القيمية، بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.
ألح على أهمية اعتبار قرار محكمة العدل الأوروبية فرصة، لأنني أرى فيه معطى محفزا يستفز الرغبة في بناء وعي سياسي جديد يجب أن نقطع فيه مع العبث السياسوي و الشعبوي المقيت، و أن نركز على خيار استراتيجي أوحد يتمثل في أولوية تعزيز مقومات سيادتنا و استقلالية قرارنا الوطني، و الدفاع عن ثوابتنا و عن مؤسسات دولتنا باعتبارها الحضن الجامع لأبناء الأمة المغربية.
و لعل من حسنات توقيت صدور قرار محكمة العدل الأوروبية الأخير، أنه أتى بالتزامن مع مشاورات تشكيل الحكومة المغربية الجديدة، التي نتطلع إلى أن تكون قوية و كفؤة و قادرة على تجسيد الأمل الديمقراطي الكبير و دعم إرادة التغيير التي عبرت عنها نسبة المشاركة الواسعة لمواطنينا في انتخابات 8 شتنبر 2021، حتى تتعزز ديناميكية التعبئة الوطنية و يتقوى مسار الثقـة في كل أبعـاده المُجتمعية.
لذلك، أرى أن أفضل رد أولي على من هللوا و ابتهجوا لقرار محكمة العدل الأوروبية، هو النجاح في كسب رهان تشكيل الحكومة و جعلها حكومة تنزيل النموذج التنموي الجديد، و إطلاق برنامج الرعاية الاجتماعية، و تأهيل الاقتصاد الوطني، و تجويد حكامة تدبيـر الشـأن العـام و ضمان النجاعة في السياسات و البرامج الاستثمارية العمومية، و تحقيق المساواة أمام القانون و فرض سموه على الجميع، و جعل المواطنين شركاء في وضع السياسات العمومية و تتبعها، و ضمان تدبير جيد للموارد العامة و تعزيز مبادئ ربط للمسؤولية بالمحاسبة.
بذلك، ستفهم محكمة العدل الأوروبية أننا ماضون بعزم في بناء المستقبل الوطني على قاعدة سمو الانتماء للأمة المغربية، من طنجة و وجدة إلى الكركارات و لكويرة؛ و أننا عازمون على تقوية الاقتصاد الوطني و تحقيق معدلات تنمية مرتفعة عبر تأهيل منظومة التدبير، و التركيز على الاستثمار الناجع، و تعزيز الشراكات الاستراتيجية و تقوية جاذبية بلادنا للاستثمارات الدولية.
و آنذاك، لن نحتاج أن نقول لمحكمة العدل الأوروبية : “إلى الجحيم … أنت و قراراتك وحيثياتها، و كل من يوحون لك بإصدارها”، لأن ذلك المعنى سيكون وصل لمن يعنيهم الأمر، و سالات الهضرة.