منتصر حمادة
عنوان هذه المقالة عنوان مباشر وصريح في آن، لأنه لا ينطلق من فرضية مفادها أن المشروع السياسي لجماعة “العدل والإحسان” الإسلامية الحركية، مشروع فاشل أم لا، وعلينا الاشتغال البحثي على المؤشرات التي تفيد فشله أو نجاحه.
كما أن العنوان كان صريحاً في تبني الحديث عن فشل المشروع السياسي للجماعة، وليس ممارسة الازدواجية أو “المداهنة البحثية” الصادرة عن بعض أقلام الساحة البحثية في المغرب، من قبيل أقلام “يسار الإخوان”، أو الأقلام التي لا تبحث عن إثارة قلاقل مع الطيف الإسلامي الحركي. (ليس صدفة أن الأعمال الجماعية أو الفردية التي اشتغلت على موضوع “الحوار الإسلامي ـ اليساري”، ويُقصد بالإسلامي هنا، المرجعية الإسلامية الحركية، وخاصة المرجعية الإخوانية، ليس صدفة إذن، أن هذه الأقلام إما من تيار “يسار الإخوان”، كما هو الحال مع المعطي منجب، المتابع قضائياً في ملف فساد إداري ومالي، أو أقلام محسوبة على المرجعية الإخوانية، أو كانت كذلك).
وضوح العنوان قائم أيضاً في الحديث عن المشروع السياسي للجماعة، وليس المشروع الدعوي، أو الجانب الدعوي في مشروع الجماعة، بما يقتضي بعض التدقيق:
يمكن التفريق بين اتجاهين بارزين في خطاب وأداء الجماعة:
ــ من ناحية، هناك خطاب سياسي أو إيديولوجي واضح، تعبر عنه حالياً ما يُصطلح عليه في مؤسسات الجماعة بـ”الدائرة السياسية” للجماعة؛
ــ ومقابل ذلك، هناك خطاب دعوي، أو وعظي صرف، مُجسد مثلاً في “مجلس الإرشاد”، مع التذكير بأن مجمل أدبيات الجماعة، صدر في أعمال مؤسس ومرشد الجماعة الأول، أي الشيخ عبد السلام ياسين، والذي ترك ميراثاُ في التأليف، يختلط فيه الوعظ والدعاية والآراء في السياسة والفكر والدين والاقتصاد.
نقول هذا بصرف النظر عن تواضع وأفق “الفلسفة السياسية” التي جاءت في أعماله، لأنها صدرت في النصف الثاني من القرن الماضي، وبالتالي كان مفترضاً أن تكون متقدمة عن أدبيات “الفلسفة السياسية” التي صدرت في المغرب والمنطقة منذ قرون مضت، لولا أن أفق “الفلسفة السياسية” في أعمال عبد السلام، بقي متواضعاً إجمالاً، بل نزعم أنه يتقاطع بشكل كبير مع الأفق الإصلاحي لأدبيات “الفلسفة السياسية” التي حررت منذ قرون مضت، كأننا إزاء نفس “الإبستيم” النظري، بتعبير ميشيل فوكو.
وعموماً، تواضع أدبيات “الفلسفة السياسية” في المنطقة العربية، لا يمكن أن يكون صدفة، وليس صدفة أيضاً أن يضطر عبد الله العروي إلى ترجمة “دين الفطرة” لجان جاك روسو، أو أن يُترجم فتحي المسكيني بعض أمهات الكتب التي يتقاطع بعضها مع “الفلسفة السياسية” الألمانية، أو أن تصدر ترجمة أنجزها فريد الزاهي لكتاب مشيل دو مونتني: “المقالات” (كتاب ضخم من ثلاثة أجزاء صدر في أواخر القرن السادس عشر)، ضمن أمثلة أخرى نوعية وتستحق التنويه والإشادة على أكثر من صعيد، إلا أنها لا زالت متواضعة مقارنة مع ما هو مطلوب في الساحة.
بالعودة إلى أدبيات جماعة “العدل والإحسان” الإسلامية الحركية، صحيح أنها تتضمن رؤى لعدة قطاعات مجتمعية، بما فيها القطاعات النسائية والنقابية والطلابية والحقوقية وغيرها، ولكن السائد في الأرضية النظرية لمشروع الجماعة، أنها موزعة على ثنائية “الدين والسياسة”، أو قل ثنئاية القول السياسي والقول الدعوي.
لا يوجد من يعترض على القول الدعوي للجماعة، لأنها بشكل عام، لم تأت بجديد، ما دامت الدعوة في الإسلام، أصل قائم في الآيات القرآنية الكريمة، إضافة إلى أن هذه الدعوة قائمة عند المسلمين منذ البعثة النبوية الشريفة، ولا زالت مستمرة، وستبقى كذلك، لأنها مرتبطة بالقيم الإسلام المؤسِّسة، ويكفي التذكير بمهمة الدعوة التي تقوم بها المؤسسات الدينية مثلاً، من قبيل المجالس العلمية المحلية، أو ما يقوم خطيب الجمعة، والتي تندرج ضمن مهام التوجيه والوعظ والإرشاد، وبالتالي، هذا أمر لا اعتراض عليه، إضافة إلى أن القول الدعوي للجماعة المعنية هنا، متأثر بالتراث الصوفي، بحكم مرور مؤسسها من تجربة صوفية، عندما كان مريداً في إحدى الطرق الصوفية المغربية.
وليس صدفة أن العديد من المنشقين عن الجماعة، بما في ذلك الذين انشقوا بسبب مواقفها السياسية شبه القروسطية، لا يختلفون مع خطابها الدعوي، لأنه خطاب قائم قبل وبعد الجماعة، ولا يمكن اختزال الدعوة الإسلامية في جماعة أو حركة أو حزب أو تنظيم.
بينما الأمر مختلف كليا مع القول السياسي للجماعة، والذي يُلخصه مشروع أو خطاب “إقامة الخلافة على منهاج النبوة”، وهو خطاب سياسي سهل نقده أو نقضه، أقله أنه ينهل من خطاب ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، والمغرب، ضمن جميع الدول العربية والإسلامية، أو أغلبها، دولة وطنية حديثة، إضافة إلى تميز التجربة السياسية في الحكم هنا بالمغرب، بوجود مؤسسة ملكية، وإمارة المؤمنين، في حالة فريدة عربياً وإسلامياً، لا نجد لها أي مثيل في المنطقة العربية أو العالم الإسلامي، وبالرغم من ذلك، ترفع الجماعة خطاب “إقامة الخلافة على منهاج النبوة”، كأنها تفكر بعقل مثالي أو طوباوي، يساهم في تزييف الوعي باسم الدين، ونزعم أن هذا العقل، يوجد ضمن أسباب انفصال العديد من الأتباع عن الجماعة، وانخراط بعض هؤلاء في نشر أعمال نقدية ضد مشروع جماعة كانوا في فترة سابقة، من أتباعها.
هذا دون الحديث عن تأمل تجارب الإسلاموية في المغرب والمنطقة العربية، أقلها ما جرى مؤخراً هنا أيضاً في المغرب، مع الهزيمة التي تعرض لها المشروع الإسلامي الحركي المنافس للجماعة، أي مشروع نواته حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية”، بكل التبعات النفسية المصاحبة لهذه الهزيمة على صورة الإسلاميين لدى الرأي العام.
من بين القلاقل التي تمر منها الجماعة أيضاً، أن نسبة كبيرة من رموز الجماعة، تبدو كما لو ما زالت تفكر بخطاب ما قبل سقوط جدار برلين، أي في الفترة التي صدرت فيها أدبيات الجماعة الرئيسية، والتي ألفها عبد السلام ياسين، أو تفكر بعقل ما قبل “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ 2013]، أو “الربيع العربي”، أي الحقبة الزمنية التي كانت فرصة أمام الرأي العام المحلي هنا في المغرب وفي المنطقة العربية، لكي يأخذ فكرة واضحة عن أداء الإسلاميين، أثناء تدبيرهم للحكم أو مساهمتهم في تدبير الحكم، سواء تعلق الأمر بالإسلاموية السياسية، كما هو الحال مع المشروع الإخواني، أو الإسلاموية القتالية، كما هو الحال مع المشروع “الداعشي”، وإعلانه ما سُمي بالخلافة هناك في سوريا والعراق، قبل سقوط تلك الأوهام بمقتضى توافقات وتدخل قوى عظمى من جهة، وتضافر عوامل ذاتية، خارج دائرة تفكير العقل الإسلاموي بشكل عام.
هذا غيض من فيض، يصب في الحديث عن فشل المشروع السياسي لجماعة “العدل والإحسان”، وتزداد هذه القناعة، عندما نأخذ بعين الاعتبار مضامين بعض الأعمال النقدية التي حرّرها أعضاء سابقون في الجماعة. وهذه حكاية أخرى، نتمنى التطرق إليها لاحقاً، بحول الله.