الرأيسلايدر

حاجة الإسلاميين في مراجعة الفوارق بين الإسلام والإسلاموية

منتصر حمادة

في غضون أسابيع، من المنتظر أن يحتضن أحد المختبرات العلمية بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، ندوة في موضوع “الدين والتديّن”؛ وفي غضون نهاية السنة الجارية، من المنتظر أن ينظم أحد المراكز البحثية السعودية، ندوة حول العنوان نفسه.
إحدى تبعات أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ 2013]، أو “الربيع العربي”، في شقها الديني، أن بعض المواضيع التي كانت تتطرق إليها مجموعة من الأسماء البحثية قبل يناير 2011، كانت تقابل بما يُشبه الازدراء أو التقزيم من طرف العديد من أقلام الساحة، ومنها الأقلام الإسلاموية.
ومن بين هذه المواضيع، ثنائية الدين والتديّن، ولعل متتبع الإصدارات البحثية في الساحة، يستحضر بعض الأعمال في هذا الصدد، وفي مقدمتها كتاب المفكر المصري عبد الجواد ياسين، بعنوان “الدين والتديّن: التشريع والنص والاجتماع”، حيث يناقش العمل كيف أن «الدين» حقيقة مطلقة قادمة من خارج الاجتماع، غير قابلة للتغير، في حين يشير تاريخ الأديان التوحيدية إلى ارتباط وثيق بين الاجتماع والدين، وخصوصاً في التشريع، أكثر ما يعبر عن تدخل الاجتماع في الدين. وأن التشريع المرتبط بالتاريخ، يختلف عن الأخلاق الكلية، المطلق الوحيد في الدين. (مؤلف الكتاب بالمناسبة، كان سلفياً وهابياً في مرحلة سابقة، قبل انخراطه في مراجعات، أفضت إلى إعادة النظر في التديّن الذي كان ينتمي إليه، وهذا أحد أسباب النقد الذي تعرض له في مقالة صدرت بمجلة “البيان” اللندنية” والتي تصدر عما يُصطلح عليه بـ”الوهابية الأكاديمية”).
يُحسبُ للراحل فريد الأنصاري، هنا في المغرب، أن تحدث عن ثنائية “الدين والتديّن” في مقدمة أحد أعماله، ضمن أعمال أخرى، لولا أنه كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ظلت هذه المؤلفات حبيسة النقاشات النخبوية من جهة، وبعيدة عن الترويج والتعريف، ومعرضة للإقصاء والازدراء من طرف أقلام “أسلمة المعرفة”.
ما جرى مع تبعات أحداث “الفوضى الخلاقة” أننا أصبحنا نعاين عودة للخوض في هذه القضايا، من باب المساهمة في تزييف الوعي باسم الدين، الذي مارسته عدة تيارات دينية على شعوب المنطقة، ومنها الإسلاموية، وفي هذا السياق، تضمن الإصدار الثاني لتقرير الحالة الدينية الذي يصدر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، مقدمة نظرية تتطرق للموضوع نفسه، بعنوان “الدّين والتديّن: مدخلٌ نظريّ”، بقلم الباحث عادل الطاهري، ونقتبس منها هذه المقدمة الدالة، وجاء فيها: “يروم هذا المحور المساهمة في فك الارتباط بين مفهومين أساسيين طالما أُغفِلا في مقاربات الفكر الديني بشكل عام في المجال التداولي العربي الإسلامي، وهما مفهوما “الدين” و”التديّن”. ونرى بدءًا أن نشير إلى أن هذه الثنائية التي اشتهرت خاصة في السوسيولوجيا، وحاول أحد الباحثين المصريين أن يتعمق في دراستها في الفكر الإسلامي [يقصد عبد الجواد ياسين] مستحضراً هذا التمايز بين المكونين الديني والتديّني، قد عُبّر عنها بمفاهيم أخرى، وإن كانت تؤدي المعنى نفسه، فأحد الباحثين تحدث عن “الدين” و”الفكر الديني”، وهو يعتبر أن هذا التماهي من قبل الجماعات الإسلامية بين المتعالي والمحايث هو إحدى استراتيجياتها لقمع الآخر فكرياً وسحب البساط من تحت أقدامه، وإضفاء، في المقابل، هالة من القداسة على مشاريعها السياسية التي تمتزج عادة بمفاهيم دينية تتم إعادة تأويلها حتى تستجيب لهمومها ومشاغلها”.
أشرنا في مقالة سابقة إلى أن نتائج انتخابات 8 سبتمبر الماضي، هنا في المغرب، تقتضي أن ينخرط الإسلاميون المغاربة في مراجعات حقيقية، من أجل التقليل من أثر تزييف الوعي الذي تورطوا فيه، منذ عقود، ولا يهم الأمر الإسلاميين المعنيين بالعمل السياسي والانتخابي، ولكن يهم حتى الجماعة غير المعترف بها، والتي تدعو أدبياتها إلى “الخلافة على المنهاج النبوة”.
والمقصود بالمراجعات هنا، إعادة النظر في العديد من القضايا والمفاهيم التي تربى عليها المتديّن الإسلاموي، سواء تعلق الأمر بالمتديّن الإخواني أو المتديّن السلفي الوهابي، ومن بين هذه القلاقل، معضلة التعامل مع الانتماء للمشروع الإسلامي الحركي كما لو أنه يُمثل الدين حصراً، بينما الأمر لا يتجاوز الانتماء إلى تديّن إسلامي حركي، أولاً وأخيراً، لأن الإسلام، لا يُختزل في حزب سياسي أو حركة إسلامية أو طريقة صوفية أو جماعة سلفية.. إلخ.
والإشكال هنا مع غياب هذه المراجعات، أنها تساهم في تكريس تزييف الوعي باسم الدين، على أتباع الإسلاموية أولاً، وعلى الرأي العام ثانياً، رغم أن الإسلاموية قلة، ونتوقف عند نموذجين اثنين، ضمن لائحة من الأمثلة:
ـ في الحالة الإخوانية، يكفي تأمل تعامل إخوان المغرب فيما بينهم، من قبيل ما جاء به الدراسات الصادرة عن المراكز البحثية التابعة لهذه الحركة الإخوانية أو تلك، من قبيل حركة “التوحيد والإصلاح” وجماعة “العدل والإحسان”، حيث الأولوية لأتباع الحركة أو الجماعة، قبل أي حركة أخرى منافسة، فالأحرى إعطاء الكلمة لأقلام تشتغل خارج المرجعية الإخوانية أساساً، ويكفي التذكير أيضاً بطبيعة تعامل هذه الحركات مع كل من سولت نفسه إعلان الانفصال عن المشروع، كما لو أنه انفصل عن الإسلام، بينما الأمر لا يتجاوز الانفصال عن الإسلاموية، وهي إيديولوجية دينية وليست ديناً؛
ــ أما في الحالة الجهادية، فيكفي التذكير بما جرى بين الحركات الإسلامية “الجهادية” بعد الحرب الأفغانية الأولى التي انتهت بخروج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، أو التذكير بحالة “الجهاديين” التونسيين الذين اغتالوا القائد الأفغاني أحمد شاه مسعود، أو التذكير بما جرى بين الفصائل “الجهادية” في الساحة السورية على هامش اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة” في المنطقة، حيث وصل الأمر إلى الاقتتال بين الفصائل “الجهادية” فيما بينها، وخاصة في الفترة الزمنية الممتدة بين 2014 و2016.
ولكي نتوقف عند وقائع دالة، نحسبُ أنها تساهم في تأكيد هذا المطلب الخاص بالمراجعات، نتوقف عند واقعتين اثنتين، جرت الأولى هنا في المغرب، وجرت الثانية في فرنسا:
ــ فأما الأولى، فتهم واقعة جرت مع الكاتب والباحث عمر العمري، مؤلف رواية “كنت إسلامياً” [يقصد أنه كان عضواً في حركة إسلامية]، وهي رواية أشبه بسيرة ذاتية، وعِوض أن يتناول المؤلف تجربته الإسلامية الحركية، من منظور سيرة ذاتية بشكل مباشر، على غرار ما قام به المهندس المغربي محمد لويزي في كتابه “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟” (2016)، ارتأى تناولها عبر بوابة الرواية، وكانت عملاً نوعياً بحق، وسبق أن أحلنا عليه، لأهميته النظرية والعملية في آن.
يروي المؤلف أنه أثناء ولوج المكتبة الوطنية من أجل الحصول على الإيداع القانوني الذي يُخول له طبع الكتاب (جرى ذلك قبل الانتقال لاحقاً إلى إمكانية الحصول على الإيداع عبر الإنترنت)، سألته موظفة في المؤسسة، عن حسن نية، عن السبب الذي جعله يختار بأن يكون عنوان الرواية بهذه الصيغة: “كنت إسلامياً”، معبرة عن نوع من الدهشة، قبل أن يجد نفسه معنياً بتوضيح المقصود بالعنوان، وهي أن كلمة إسلامي هنا، تحيل على المتديّن الإسلامي الحركي بشكل عام، أن يكون إخوانياً أو سلفيا وهابياً أو داعشياً.. إلخ، هذه تفاصيل، ولا يقصد أنه كان مسلماً، كما خطر على بال الموظفة، من حيث لا تدري، ولهذا اعتقدت، على الأرجح، أو قرأت العنوان كأنه جاء في الصيغة التالية: “كنت مسلماً”، بينما الأمر ليس كذلك قط.
تسلط هذه الواقعة الضوء على عدة قضايا، منها أهمية الاشتغال على المفاهيم من أجل تنوير الرأي العام، والأدهى هنا، أن الأمر وصل إلى تشويش طال موظفة في مؤسسة تشتغل على الإصدارات والكتب والمجلات، ومع ذلك، ذهبت ضحية التشويش، بحيث لم تفقه الفوارق بين أن تكون مسلماً، وبين أن تكون إسلامياً حركياً: كلاهما مسلمان بالطبع، هذا تحصيل حاصل، ولكن الإسلامي الحركي، يتوهم من حيث يدري أو لا يدري، بأنه من أتباع “الطائفة المنصورة” أو يُمثل “النسخة الحقيقية للإسلام” أو من “حراس العقيدة” بتعبير الشيخ كشك، وما جاور تلك الأدبيات والشعارات التي يتربى عليها المتديّن الإسلامي الحركي.
ــ أما الواقعة الثانية، فجرت في فرنسا، مع الكاتب والفاعل الجمعوي فريد عبد الكريم، ومن قرأ أعمال بعض المتخصصين في المسألة الإسلامية بفرنسا، وخاصة ما حرره جيل كيبل أو غزافييه ترنسيان، سيجد هذا الإسم حاضراً في تلك الأعمال، لأنه كان عضواً فاعلاً ونشيطاً مع المشروع الإخواني، قبل أن يُقرر أخذ مسافة وإعلان الطلاق النظري والتنظيمي عن المشروع، وانخراطه أيضاً في مبادرات تروم التصدي لبعض آثار تزييف الوعي المرتبط بانتشار الخطاب الإسلاموي في الساحة الفرنسية، سواء عبر المشاركة في أعمال فنية، مسرحية على الخصوص، أو نشر مجموعة كتب، وعددها خمسة، منها كتاب أشبه بسيرة ذاتية، بعنوان: “لماذا لم أعد إسلامياً: مسار في قلب الإسلام في فرنسا” [2015] ، وكتاب “الإسلام سيكون فرنساً أو لا يكون” [2015]:
ــ في كتابه” لماذا لم أعد إسلامياً: مسار في قلب الإسلام في فرنسا”، يروي المؤلف سيرته الذاتية في شقها الإيديولوجي، أثناء الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا، والتي تلت تجاربه في الانحراف وطرح أسئلة وجودية، قبل تعرضه للاستقطاب الإخواني، وتتقاطع مضامين الكتاب مع سيرة محمد لويزي التي جاءت في كتابه “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟ [2016]؛
ــ وفي كتابه “الإسلام سيكون فرنساً أو لا يكون”، يتوقف المؤلف عند القلاقل التي أصبحت تعاني منها الجالية المسلمة مع الإسلاموية، داعياً إلى تحيين القيم الإسلامية مع قيم الجمهورية الفرنسية، من باب قطع الطريق على خطاب التطرفات الدينية والمادية، سواء كانت صادرة عن المسلمين أو عن غيرهم.
ما يهمنا هنا، إشارات في خطاب فريد عبد الكريم بأنه انفصل عن الإسلام السياسي، أو عن الإسلاموية، ولم ينفصل عن الإسلام، أي إنه ليس مرتداً، بل إنه وجد نفسه مراراً يتورط في شرح هذه الجزئية، ومرد ذلك التشويش الذي تسبب فيه الخطاب الإسلاموي للرأي العام، المسلم والأوربي على حد سواء، فمن جهة، قد يعتقد العضو الإسلامي الحركي، أن انفصال أي عضو عن المشروع، لا يختلف عن انفصاله عن الإسلام، لأن هذا العضو يتوهم، انطلاقاً من التربية الحركية، أن تدينه الإسلاموي الإيديولوجي هو الدين الإسلامي، بينما الأمر خلاف ذلك؛ ومن جهة ثانية، لا تُفرق نسبة من الرأي العام الإسلامي والغربي كثيراً في معنى أن تكون مسلماً، دون أي ولاءات إيديولوجية، لحركة دعوية أو سياسية أو قتالية، وبين أن تكون إسلامياً حركياً، أي منتمياً إلى حركة إسلامية، ولذلك كان فريد عبد الكريم، وحالات أخرى في فرنسا والمنطقة العربية، معنيون بالخوض في هذه التدقيقات المفصلية، والتي تبرز بعض القلاقل المرتبطة بتزييف الوعي الذي يجسده المشروع الإسلامي الحركي، والنموذج هنا مع المشروع الإخواني.
ومن هنا أهمية الاشتغال على ثنائية الدين والتديّن، أو ثنائية الإسلام، الدين الخاتم، الذي جاء نبيه، المصطفى عليه الصلاة والسلام، رحمة للعالمين، والإسلاموية، أو الحركات الإسلامية، وهي تديّن، له ما له وعليه ما عليه، وليست ناطقة باسم المسلمين، ولا أحد من المسلمين طلب منها أن تكون ناطقاً باسمه، وهذا باب واحد من عدة أبواب تندرج في المراجعات التي يجب أن تنخرط فيها الحركات الإسلامية.

زر الذهاب إلى الأعلى