أخبار الدارسلايدر

نقد خطاب “تراجع الإسلاموية”: التواضع السياسي لا يفيد التواضع الميداني

منتصر حمادة

بين 30 يونيو 2013 (تاريخ السقوط السياسي لجماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، و8 سبتمبر 2021 (تاريخ السقوط السياسي لحزب “العدالة والتنمية”)، جرت عدة تطورات في أداء الأحزاب السياسية التي تصنف في خانة الحركات الإسلامية، ومنها مثلاً، التطورات التي تهم الفرع التونسي والفرع المغربي، وبالتحديد تطورات 2021، إلى درجة دفعت مجموعة من الباحثين والإعلاميين والمتتبعين، للحديث عن “نهاية الإسلام السياسي”، أو “أفول الإسلاموية”، وعناوين من هذه الطينة.
واضح أن العديد من هؤلاء لم يدققوا قط في طبيعة الإسلاموية هنا، لأنها موزعة على عدة تيارات، من قبيل التيار الدعوي، التيار السياسي والذي يوصف عند البعض بحركات وأحزاب “الإسلام السياسي”، أو التيار القتالي المسمى إعلامياً وبحثياً عند البعض بالتيار “الجهادي”.
في كتابه “دولة الإسلام السياسي” وهم الدولة الإسلامية” للمفكر المغربي سعيد بنسعيد العلوي، نلاحظ أن المؤلف لا يقصد بحركات “الإسلام السياسي” الحركات والجماعات الإسلامية المعنية بالمشاركة في العمل السياسي وحسب، ومعه العمل الدعوي، وإنما يُدرج حتى الحركات الإسلامية القتالية أو “الجهادية”، حتى إنه توقف عند أدبيات أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وبعض الرموز الإسلامية المحسوبة على “المرجعية الجهادية”.
ثم إن الإسلاموية ليست منحصرة على المشروع الإخواني مثلاً، فهناك المشروع السلفي، من قبيل السلفية التقليدية مع السلفية الوهابية، فالأحرى الظاهرة “السلفية الجهادية”، دون الحديث عن حركات إسلامية لا تخرج عن إطار العمل الدعوي الصرف، وفي مقدمتها جماعة “الدعوة والتبليغ” التي تبقى حالة خاصة في هذا السياق، إلى درجة تقاطع بعض أعمالها مع ما يصدر عن الطرق الصوفية، وخاصة في الممارسات المرتبطة بالذكر الفردي والجماعي، والابتعاد عن الخوض في القضايا السياسية ونبذ اللجوء إلى العنف.
إذا كان خطاب “أفول الإسلاموية” أو “أفول الإسلام السياسي” أو تراجع الإسلاميين، يُرَوج بشكل هلامي أو ضبابي، فإن هذا المعطى يصبّ في تكريس التشويش بخصوص قراءة الظاهرة، خاصة أن طبيعتها هنا في المغرب مثلاً، والمنطقة أيضاً، وحتى في أوربا، تفيد أنها قائمة بشكل أكبر مقارنة مع العقود الماضية، ويكفي التذكير في الحالة الأوربية مثلاً، مع النموذج الفرنسي ضمن نماذج أخرى، أن الأمر وصل إلى أن مؤسسة تشريعية من قبيل مجلس الشيوخ الفرنسي نشرت تقريراً رسمياً في يوليو 2020، مخصص للتوقف عند معالم الإسلاموية في فرنسا، متوقفاً عند خمس تيارات على الأقل، وهي المشروع الإخواني، التيار السلفي، جماعة “الدعوة والتبليغ”، الإسلاموية التركية، وأخيراً، الحالة الجهادية، ولم يتحدث التقرير قط عن أفول الإسلاموية أو تراجع الإسلام السياسي أو شيء من هذا القبيل.
وحتى لو تركنا جانباً المشروع الدعوي أو التيار السلفي والجماعات “السلفية الجهادية”، فإن الحديث عن المشروع الإخواني يتطلب استحضار قاعدة العمل بمنطق “المَجَرّةّ” الذي أشرنا إليه من قبل، من أن هذا المشروع نواته حركة إخوانية ولكن هناك عدة جبهات تابعة لهذه النواة، منها الجبهة السياسية والجبهة الطلابية والجبهة النسائية والجبهة البحثية والجبهة الإعلامية… إلخ، هذا دون الحديث عن أن العديد من الباحثين والمتتبعين تغيب عنهم هذه الإشارات، فكيف ننتظر من هؤلاء تحرير ما يُفيد في قراءة الظاهرة؛ ودون الحديث عن الارتباطات النظرية والتنظيمية لأعضاء المشروع: على سبيل المثال، الباحث أحمد الريسوني، وهو الرئيس السابق لحركة “التوحيد والإصلاح” هنا في المغرب، هو الرئيس الحالي لما يُسمى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، وهو تنظيم إيديولوجي، محسوب على ما يُسمى “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين”، وقس على ذلك لائحة عريضة من الأمثلة.
شتان ما بين الحديث عن أفول الإسلاموية إذا كان يُقصد به هزيمة أحزاب إسلامية في استحقاق انتخابي، وبين الحديث عن أفول الإسلاموية إذا كان المقصود بذلك الأداء المجتمعي للمشروع نفسه، لأننا لسنا إزاء أفول قط، بل لا زال الأمر قائماً، وإن كانت حقبة الهزائم الانتخابية، تتطلب إعادة ترتيب الأوراق الإسلاموية، ولو تطلب الأمر تبني خيار التقية والدخول في مرحلة كمون ضمن استراتيجيات أخرى، على غرار ما نعاين مع أداء المراكز البحثية الإخوانية هنا في المغرب، أو المراكز البحثية التي يزعم أصحابها أنه لا علاقة لهم بالإخوان، وهم قادمون من المشروع، أو المراكز البحثية العربية التي يمثلها الإخوان حصراً هنا في المغرب، من قبيل مركز “نهوض” الكويتي.
ثمة واقعة جرت مؤخراً في المنطقة العربية، مفيد جداً استحضارها في مواجهة خطاب “أفول الإسلاموية”، ويتعلق الأمر بواقعة التصريحات التي أدلى بها الإعلامي والوزير اللبناني جورج قرداحي على هامش مشاركته في برنامج محسوب على المشروع الإخواني، حيث انخرطت أغلب المتابعات الرقمية للموضوع دون الأخذ بعين الاعتبار المرجعية الإيديولوجية للبرنامج.
لقد وصل الأمر ببرنامج حواري عابر إلى أنه تسبب في اندلاع أزمات دبلوماسية حقيقية بين دول خليجية ولبنان، إلى درجة أن السعودية أعلنت عن إغلاق مكاتب محطة “إم. بي. سي” اللبنانية، ونقل المكاتب إلى المجال الخليجي.
جرت هذه التطورات مع برنامج عابر، أو يبدو إنه كذلك، وفي عز الحقبة التي يتحدث فيها الجميع عن “أفول الإسلاموية” و”تراجع الإسلام السياسي”، بينما الأمر خلاف ذلك، رغم اشتغال أعضاء المشروع الإخواني في مرحلة ضعف تنظيمي، ظاهرياً على الأقل، بينما الأمر خلاف ذلك ميدانياً، ويكيف تأمل أداء المراكز البحثية الإخوانية أو المحسوبة على الإخوان، هنا في المغرب والمنطقة، فالأحرى تأمل الأداء الإعلامي ضمن مجالات أخرى.
في كتابه سالف الذكر أعلاه، ثمة مجموعة من الأسئلة الهامة التي اشتغل عليها سعيد بنسعيد العلوي، منها الأسئلة التالية: لماذا يقدر دعاة الإسلام السياسي على استهواء مجموعات كبيرة من الناس، ومن الشباب على وجه الخصوص؟ ما السحر أو الجاذبية التي يجدها شبان يعيشون في دول أوروبية، يحملون جنسياتها، بالتنظيمات الإسلامية؟ ولماذا يبلغ الإيمان بقضية الإسلام السياسي درجة الإقبال على فعل الإرهاب، والتمنطق بالأحزمة الناسفة؟
صدرت هذه الأسئلة منذ بضع سنوات فقط، قبل ما جرى مع بعض إسلاميي تونس في الصيف الماضي وما جرى مع بعض إسلاميي المغرب في الخريف الحالي، أي ما جرى مع الشق السياسي للمشروع الإسلاموي، ولا زالت الأسئلة نفسها صالحة حتى بعد تلك التطورات الانتخابية، لأنها لا تفيد بالضرورة أنها كانت مصاحبة بتطورات موازية تهم المجالات الإعلامية والبحثية والطلابية والنسائية، وغيرها، يمكن حينها الحديث عن تراجع الإسلاموية، بينما الواقع يُفيد أنها حاضرة وفاعلة في مرحلة التراجع النسبي، والنموذج هنا ــ مع أنه نموذج واحد وعابر في آن ــ يهم إحدى حلقات ذلك البرنامج، ضمن نماذج أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى