بقلم: يونس التايب
تفاعلا مع ما نشرته المواقع الإلكترونية من تصريحات للمعنيين بموضوع سكن “أسرة ميكري” بقصبة الأوداية، تبين لي أن الموضوع أخذ أبعادا تجاوزت المنطق، و غلبت العواطف على مبدأ سمو احترام القانون في كل الحالات، و تم خلط المفاهيم و تجاهل جوانب مركزية في التحليل، و نشر قراءات مزاجية أكثر منها موضوعية. و في رأيي، هنالك حاجة للتذكير ببعض الملاحظات المنهجية و طرح تساؤلات منطقية تفرض نفسها، حتى لا نخطئ في قراءة الموقف.
بشكل مبدئي، لأسرة ميكري الحق في الدفاع عن مصالحها بخصوص المنزل الذي تسكنه و تطالب صاحبته باسترجاعه لاستغلاله بموجب حكم قضائي. لكن، هذا الحق يجب أن يظل في إطار القانون، و لا تتحول ممارسته إلى دراما إعلامية يتم إخراجها بشكل يتجاوز المعقول و المنطق. حيث أنه، في نهاية الأمر، نحن أمام قضية منزل ليس له من خاصية سوى أن عائلة الأخوان ميكري، سكنت به منذ أوسط السبعينيات. و في عمقها، هذه القضية تشبه مئات القضايا التي تعيشها أسر مواطنين آخرين، اضطروا لإخلاء مساكنهم بعد أحكام قضائية. فهل علينا أن نقبل من تلك العائلات عدم تنفيذ أحكام القضاء ؟ أم الواجب هو، فقط، أن نسأل عن مدى قانونية الإجراءات التي تمت على أساسها المطالبة بالإفراغ ؟ أم هنالك من يعتقد أن الدموع تكفي لتغيير قوة معطيات الحقوق المملوكة، و تجيز لمن يعتبر أن القانون لم ينصفه، أن لا يسعى إلى تصحيح الخلل عبر القانون، بل عبر تجييش وسائل الإعلام و خلط المفاهيم و التأثير على الرأي العام ؟
من زاوية أخرى، إذا سلمنا أن بعض الفنانين لهم مكانة رمزية، و قبلنا اعتبار السكن الذي عاشت فيه أسرة ميكري، له قيمة معنوية لأنه احتضن نشاطات فنية و إبداعية، أليس المفروض أن نفس القاعدة تشمل أسماء أخرى، ربما يرى المغاربة أن لها رمزية ثقافية أكبر، تجعل أصحابها يستحقون أولوية معالجة المشاكل الاجتماعية التي يعيشونها دون ضجيج و لا حملات لاستدرار العطف ؟ أم أن هنالك من يعتقد أن محمد رويشة، و العربي باطما، و الرايس بلعيد، و الحاج حمو أوليازيد، و محمد العروسي، و عبد الصادق شقارة، و الحسين التولالي، و عبد الكريم الرايس، و محمد الوكيلي، و حميد الزاهير، و محمد الحياني، و غيرهم كثير، رحمهم الله جميعا، لم تشهد منازلهم صولات فنية أصيلة هي من جواهر الثقافة المغربية ؟
و ماذا نقول عن فضاءات عاش و أبدع فيها أمثال الرايسة تابعمرانت، و عبد الله لفوا، و حادة أوعكي، و محمد السوسدي، و الحاجة الحمونية، و فاطنة بن الحسين، و أولاد بن عكيدة، و مجموعات ناس الغيوان و جيل جيلالة و المشاهب و أودادن و إزنزارن و تكادة …؟ أليس من بين هؤلاء من يعيش في مستويات مادية متوسطة، و لم نسمع يوما أنهم أقاموا الدنيا من أجل مشاكل كراء سكن ؟ ألا يستحق هؤلاء الذين أحبهم المغاربة و سعدوا بفنهم، ربما أكثر مما استمعوا و أحبوا أغاني الإخوان ميكري، التفاتة للتخفيف مما يعانونه من مشاكل السكن و التغطية الصحية و غياب التقاعد، و غير ذلك …؟
لنفكر بهدوء … هل هاته الرمزية التي يدافع عنها البعض، تجيز لهم أن يضغطوا على السلطات العمومية المكلفة بالشأن الثقافي، من أجل دفعها إلى التصرف بمنطق ستنتج عنه أشكال جديدة من الريع الذي ننتقده و نريد تجاوزه في نموذجنا التنموي الجديد؟؟ أليس المنطق هو دعوة الحكومة إلى الإسراع في تنزيل أنظمة الرعاية الاجتماعية و الصحية التي أمر بها جلالة الملك، حفظه الله، وتشجع ذلك الورش الاجتماعي الاستراتيجي لفائدة جميع المغاربة، فنانين كانوا و غير فنانين …؟
ثم، لماذا علينا أن نقبل أن تكون لفئة معينة، “رمزية” تجعلها تستحق عناية تفضيلية، قد تصل بالبعض إلى نسيان سمو الأحكام القضائية، و لا نتحدث بنفس الحماس و “الجذبة”، أن لعلمائنا و فقهائنا و مفكرينا، وللأستاذ الجامعي، و المعلم، و الطبيب، و الشرطي، و الجندي، و الدركي، و رجل القوات المساعدة، و رجل الإدارة الترابية، و المحامي، و المهندس، و الموظف، و الفلاح، و التاجر الصغير، و الصانع التقليدي… إلخ… نفس الرمزية و الاستحقاق للدعم و التضامن ؟
أليس مئات الباحثين و الأكاديميين و الروائيين و الشعراء و المفكرين المغاربة الذين أبدعوا و لا زالوا يبدعون، أحق بالعناية و التكريم ليخرجوا من عتمة النسيان و العزلة التي يعيشونها بعيدا عن اهتمام التلفزات العمومية، في زمن صار الوعي الشعبي يتشكل عبر مواقع التواصل الاجتماعي و إعلام كاميرات الهواتف التي تتجمع حول “المؤثرين” زورا، و تستجوب نجوم التفاهة و العبث القيمي في الزمن الرديء ؟
إذا كان علينا أن نتحول إلى شعب يرتب استحقاق الناس للتعاطف و المؤازرة، بحسب مساهماتهم المفترضة لمصلحة الوطن، فلا شك أن المغاربة سيعتبرون الأولى بالتعاطف و الدعم هي أسر المجاهدين الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي و الإسباني في الجبال و القرى و الصحراء المغربية و لم ينالوا شيئا بعد الاستقلال، و أسر شهداء قواتنا المسلحة الملكية و قوات الدرك الملكي و الأمن الوطني الذين استشهدوا في معارك الدفاع عن التراب الوطني ضد عصابات الانفصال و المرتزقة، و أسر الأطباء و الأساتذة و المهندسين ولأطر التقنية الذين يعملون و يعيشون في القرى النائية، و يتحملون برودة السكن في الجبال البعيدة و الصعبة المسالك، في خدمة مصالح الوطن والمواطنين.
في اعتقادي، يجب أن ننتبه إلى أن “الرمزية” مسألة حساسة لا تحتمل المقاربات الذاتية، و لا منطق المصالح الخاصة التي تهم أصحابها و لا تلزم باقي المواطنين في شيء. و إلا سنكون كمن يساند فكرة “اللي ما عندو خالتو عندو لالاه” أو “اللي عندو خالتو في العرس، ما يباتش بلا عشاء”، و من تم نستمر في تعزيز منطق لن يعين مجتمعنا على الخروج من الحلقة المفرغة للتخلف و المحسوبية التي نستنكرها جميعا.
ملف “أسرة ميكري” واضح، و الموقف منه يقتضي العدل و يستوجب الموضوعية : لتلك الأسرة حق الدفاع عن مصالحها، و نحن نتفهم وضعها من الزاوية العاطفية و الإنسانية، و نتضامن معها كي لا تظلم. لكن، بنفس الدرجة علينا أن نتفهم حق السيدة التي اشترت العقار موضوع النزاع، في الاستفادة من ممتلكاتها إذا تأكدت قانونية الأوراق التي تمتلكها. و كونها ابنة “وزير سابق” و تسكن في حي السويسي الراقي، لا ينزع عنها حقوقها كمواطنة مغربية. كما علينا، و هذا هو الأهم، توقير و احترام القاضي الذي أصدر حكما لصالح مالكة العقار، و لا يجوز ترويج ما قد يوحي بأن الحكم لم يتوخ العدل و ضمان الحقوق التي يكفلها القانون. و على من لم يعجبه حكم القاضي، أن يلجأ لمحكمة النقض و يدافع عن ملفه.
و بالتالي، على أسرة ميكري أن تجد حلا لمشكلتها عبر الإمكانات المادية الخاصة بها، أو عبر إمكانيات أصدقائها الذين يريدون دعمها من أموالهم الخاصة، و لا مجال للحديث عن المال العام الذي تدبره وزارة الثقافة لأن تلك إمكانيات تستحقها عشرات القصبات و الأسوار التاريخية و المدارس العتيقة التي تحتاج التأهيل و الإصلاح و رد الإعتبار، و تحتاجها دور الثقافة من أجل تمويل عصرنة مرافقها و تجهيزاتها و رقمنة محتواها، و تحتاجها أسرة المسرح و الفن و الأدب و الثقافة في إطار مؤسساتي يدعم الحقوق الاجتماعية لجميع متهني حرف الفن، بمساواة و دون تمييز و لا ضجة إعلامية منفوخة بالهواء.
في رأيي، يجب أن يستحيي البعض من هذه “الجذبة”، في هذه المرحلة الصعبة التي تبكي فيها آلاف الأسر دون أن يرى المغاربة دموع معاناتهم، و أساسا مستخدمي قطاع السياحة و الفنادق، و المرشدين السياحيين، و كراء السيارات السياحية، و المآوي الجبلية، و الصناع التقليديين، و معدي الحفلات، و الإعلاميين العاملين في مؤسسات الصحافة الورقية، و الممثلين المسرحيين و الموسيقيين و التقنيين، و عدد من الأرامل و المطلقات اللواتي انقطع رزقهن بشكل غير مباشر في ارتباط مع القطاعات الإنتاجية المأزومة.
كما يجب، بشكل عام، أن نستحيي أمام الوضع الذي تعيشه فئات اجتماعية كثيرة تعاني الفقر و الهشاشة و المرض و البطالة، و قسوة البرد و وضعية الشارع و الإعاقة، و الأزمة التي تعيشها أسر فقد أربابها عملهم بسبب الأزمة التي أحدثتها الجائحة الوبائية، منذ مارس 2020، و تعذر عليهم تسديد فواتير الكراء و الماء و الكهرباء، و أشطر القرض السكني، فأفرغوا مساكنهم، و بكى أبناءهم الصغار و بكت الأمهات، في غياب كاميرات تثير واجب التضامن معهم، و تستنفر السلطات العمومية لمنحهم دعما استثنائيا، أو تعبئة حملات تضامن مجتمعي خاص معهم.
إذا كنا فعلا نريد بناء وطن عادل يحتضن كل أبنائه، و ينشر قيم الرحمة و التضامن و العدل بينهم، علينا تحمل مسؤولية الالتفات لأصحاب الأوضاع الهشة و من تأثروا أكثر بالأزمة، و تدبير مواقفنا التضامنية مع الجميع بموضوعية، و الحرص على ترتيب أولويات التدخل، الذي نطالب به السلطات العمومية في زمن الأزمة، على أساس الاستحقاق و المساواة و المواطنة، حتى لا نسيء من حيث نريد أن نحسن صنعا.