قراءات رمضانية..الجهادية: عودة القربان.. عمل مرجعي حول الظاهرة في المنطقة والعالم
منتصر حمادة
منذ منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، والساحة البحثية المحلية والإقليمية والدولية تعج بالإصدارات والدراسات والأبحاث حول الظاهرة الجهادية، مع فوارق كبيرة في المضامين والمرجعيات والمقاربات.
بل وصل الأمر إلى تأسيس مراكز بحثية عربية ومغربية في سياق الاشتغال على قراءة الظاهرة المعقدة والمتشعبة، مع ملاحظة نقدية هنا تهمنا في المغرب، تهمنا غياب مثل هذه المراكز البحثية، بل إن نسبة لا بأس بها من مراكز الساحة محسوبة على الإسلاموية، أي مراكز “أسلمة المعرفة”، سواء كانت هذه المؤسسات صريحة في الإعلان عن ذلك أو كانت تمارس التقية، وهذه حكاية أخرى، قد نتطرق إليها في إحدى مقالات سلسلة “إسلاميات” عبر بوابة موقع “الدار” خلال هذا الشهر الكريم بحول الله.
في السياق البحثي أعلاه، يأتي هذا الكتاب الذي يمكن إدراجه ضمن الأعمال النوعية التي اشتغلت على الظاهرة الجهادية، وعنوانه “الجهادية: عودة القربان” للفيلسوف الفرنسي جاكوب رݣوزينسكي، ترجمه للعربية يونس الزواين وعبد الحق يتكمنتي، وصدر عن مؤسسة مؤمنون والمركز الثقافي للكتاب (ط 1، 2021، وجاء في 256 صفحة)، أما فصوله، فجاءت عناوينها كالتالي: من هو عدونا؟، آلات قتل فعالة وبادرة، من الغضب إلى الكراهية، البروليتاري والغوغائي، المستبد والنبي، لعنة عمر، المسيح والقيامة، عقدة إسماعيل، عودة القربان، تجاوز الكراهية.
عندما نجحت “داعش” في وضع الأسس الأولى لدولتها المزعومة، لم يدرك العالمُ كيف استطاعت تحقيق أهدافها المرحليّة، من قبيل استدراج مقاتلين من كلّ بقاع العالم، فانبرت جيوش المحلّلين والخبراء لتحليل واقعها وقوّتها الاستراتيجية، غير أنّهم أغفلوا حجرها الأساس الذي هو خطابها.
هذا ما حاول رݣوزينسكي التنقيب في أدوات اشتغاله والحفر في جذوره الأنثروبولوجية، من خلال الاشتغال على عدد كبير من الأسئلة الموزعة على عدة فصول من الكتاب، من قبيل: ما طبيعة خطاب داعش التجذيري؟ ما الذي يجعله فعّالاً ومقنعاً؟ ما الذي يُميّزه من باقي الخطابات الشموليّة أو الجذريّة؟
لعل أول سؤال سيتبادر إلى ذهنه عند قارئ الكتاب هو: ما جدوى کتاب آخر حول الحالة الجهادية؟ والحال أن الكاتب قد طرح السؤال نفسه في ثنايا بحثه مشيرة إلى كثرة الدراسات والتحاليل الرامية إلى فهم الظاهرة بقصد تفكيك شروطها الموضوعية، غير أنه سلك طريقة مغايرة لسابقيه من الباحثين والمتخصصين كما نقرأ في تقديم العمل بقلم مترجميه، حيث اجترح مفاهيم بانية ناظمة، وتبنی زاوية نظر مختلفة.
تكمن جدة هذه الدراسة وأهميتها أساساً في منهجية تحليله لظاهرة يبدو أنها طارئة ومستجدة بحيث استدعى الكاتب منهجية فلسفية بمقدورها تناولها في بعدها الراهن دون إغفال تجذرها في العمق الأنثروبولوجي والتاريخي والسياسي للمجتمعات القديمة والحديثة. لنقل إن بحثه هذا قائم على تناول فلسفي لظاهرة لا يمكن فهمها إلا باستحضار عوامل عديدة واستدعاء أبعاد مختلفة.
تكمن أهمية المقاربة التي تبناها المؤلف في أنها تعمل على تفكيك الخطابين معاً: الغربي والإسلامي الخاصين بالظاهرة الجهادية، ما يجعل ممكناً معالجتها بطريقة فلسفية جلية، إذ تشكل إعادة تعريف المصطلحات المتداولة فلسفة ومفهمتها في التحاليل الإعلامية والأمنية والأبحاث الأكاديمية مدخلاً أساسياً لتناول الواقع بطريقة علمية.
يرى المؤلف أن قوة خطاب الجهاديين تكمن في ربط الوضع الاجتماعي لمرشّحي الجهاديّة وجروحهم النفسيّة برمزيّةٍ تتعدّى حاضرهم في إطار إعادة تنشيط خطاطات متقادمة، ما يمنح هذا الخطاب قوّةَ جذبِه، ويجعل منه جهازاً للسلطة قادراً على إيهام أشخاصٍ بقدرته على تلبية ندائهم الداخلي. الخطاب التجذيري، يضيف جاكوب رݣوزينسكي، دعوة لمعانقة جذر المشكل، لكن الحركات الجهادية تحوّر محتواه خدمة لأهدافٍ تتجاوز واقع الصراع مع الغرب، وبحثاً عن إعادة تجميع الجسد الجمعي الإسلامي خارج السيرورة الديمقراطية عبر طقسٍ يكتسي دلالة رمزية وسياسية ألا وهو القربان.
من إشارات أو قل تحذيرات الكتاب، ونعتقد أنها موجهة إلى الخطاب البحثي ونظيره الإعلامي الذي يروج شعار “أفول الجهادية”، بينما الأمر أعقد بكثير من ذلك، تأكيد المؤلف أن ترويج هذا الخطاب، من قبيل أن “التهديد قد أخذ في الابتعاد، لأن الدولة الإسلامية المزعومة تتراجع على جميع الجبهات، وأولئك الذين التحقوا بها يعودون تدريجياَ إلى بلدانهم الأصلية، يقتضي التوقف عند أسئلة ضرورية: من يؤكد لنا أن هجمات جديدة لن تشت ضدنا؟ من الذي يثبت لنا أن تنظيماً آخر لن ينبثق بعد هزيمة هذا الأخير؛ إذ هو نفسه ظهر على أنقاض تنظيم “القاعدة”؟ ما الذي يضمن لنا ألا تنبعث بؤرة جهادية جديدة في مصر والمغرب الكبير أو في مناطق أخرى؟ حتى ولو انهزمت الجهادية على المستوى العسكري، فإن ذلك لن يكون نهائياً طالما آنها حافظت على قوة جذبها، وأن الشروط التي أفرزتها بقيت على حالها؛ إذ سيظل خصبة ذلك الرحم الذي أخرج تنظيم “داعش” إلى الوجود.
إذا لم تكن الجهادية عودة إلى الإسلام الأصلي، ومؤشراً معكوساً للخروج من الدين، فما هي إذاً؟ للإجابة على هذا السؤال المؤرق، والقائم منذ منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن كما سلف الذكر أعلاه، يستشهد المؤلف برأي للباحث التونسي الراحل عبد الوهاب مؤدب، مؤلف كتاب “أوهام الإسلام السياسي”، والذي اعتبر أن هذا النكوص الأصولي أشبه بتديّن إسلامي يُعيد تأسيس اعتقاده على أنقاض الحضارة التي أنشأها، خاصة أن أولئك الذين يدينون أعمال المتصوفة والموسيقى التي تلهمها، باعتبارها أعمالاً “شيطانية”، ويهدمون أضرحتهم، ويريدون إحراق مخطوطات تومبوكتو، ويتذرعون بالقرآن لتبرير الاضطهاد والمجازر والاستعباد والتعذيب والاغتصاب، يقلبون الإسلام ضد نفسه.
في معرض نقد المشروع الجهادي، خلُص المؤلف إلى أننا نعاين خيانة مشروع التحرير الذي جاءت به الأديان، لأنه تمّ تشويهه بشكل مضاعف خلال التاريخ، وخاصة عندما تركت السلطة بعض تياراتها نفسها لتستولي عليها الكراهية وتشوهها أجهزة الاضطهاد والترهيب التي تُعيّن أعداء لإبادتهم، داعياً إلى محاولة فهم من الذي جعل هذا التشويه ممكناً؟ وكيف يمكن أن يجتمع الرجاء الذي ينشط ديناً للخلاص بالكراهية أحياناً، لأنه في الوقت الذي يمرّ جهاز ما من التمرّد إلى الكراهية، يتخلى عن المشروع التحريري الذي يقوده، فحين أوجدت الكنيسة القروسطية محاكم التفتيش وأرسلت زنادقة ويهوداً وساحرات إلى المحرقة، قامت بخيانة حقيقية للأناجيل؛ وهذا ما ينطبق على دين المسلمين مع معضلة الجهاديين، معتبراً أنه أمام جوهر الإسلام، نجد إسلاماً وفياً لمشروعه التحريري الأساس وإسلاماً يخون مشروعه. هناك إسلام يرفض الكراهية، مقابل تديّن إسلاموي يتغذى عليها ويُنميها إلى أقصى الحدود، منتجاً بدوره آلات قتل فعالة وباردة، وهذا سبب كافٍ لدعم الأول ومحاربة الثاني.
يرى جاكوب رݣوزينسكي أن الحركات الإسلامية تتعامل مع بعض الآيات القرآنية دون الأخذ بعين الاعتبار سياقها التاريخي أو إعطائها دلالة رمزية تتعالى عن منطوق النص، مضيفاً أنه لم تتوقف قط في الإرث الكلاسيكي للإسلام إعادة القراءة والتأويل الخلاق للكتاب من طرف فقهائه وفلاسفته وصوفييه وخلقت إمكانية نقاشات مفتوحة بين مدارس مختلفة.
نأتي للبديل الذي يقترحه المؤلف في سياق مواجهة الظاهرة، وقد اقتراح بعض البدائل، وإن طبق الصمت عن مسؤولية جزء من النخبة السياسية الغربية في تغذية الظاهرة الجهادية منذ عقود مضت، وهذا موضوع مسكوت عنه في أغلب الأعمال البحثية الصادرة في أوربا وأمريكا، مع بعض استثناءات.
مما يقترحه جاكوب رݣوزينسكي مثلاً، أن الأمر يتعلق أولاً وقبل كل شيء بصراع داخلي في الإسلام يضع قواه المجددة مقابل التيارات الأصولية. ويتوقف اندحار جهاز الترهيب أو انتصاره على نتيجة هذا الصراع، مضيفاً أنه إن كان صعود الجهادية نتيجة الوضع التاريخي الذي يوجد عليه الإسلام؛ أي الأزمات التي تثقله وتعرقله، فإن إصلاحاً لهذا التديّن يمكن أن يوقفها أو يقضي عليها نهائيا في نهاية المطاف. [في الواقع يتحدث عن إصلاح الدين، بينما الأصل هنا إصلاح تدين، لأنه يتحدث انطلاقاً من إسقاط التجربة الدينية النصرانية على الإسلام، والحال أن هناك فوارق في التجربتين]
يبقى الإصلاح الثقافي والأخلاقي للتدين الإسلامي حسب المؤلف، أمراً مطلوباً في أيامنا هذه. وجواباً على أولئك الذين يدعون عدم إمكانية إصلاحه، يجب أن نقول إن هذا الإصلاح قد بدأ فعلاً وهو هذا العمل الجماعي الخاص بكل أولئك المفكرين والمؤمنين البسطاء وهؤلاء النساء والرجال الذين يجابهون النكوصية الأصولية مخاطرين بحيواتهم وباحثين عن طرق جديدة لمصالحة القيم الإسلامية والديمقراطية.
بقيت إشارة أخيرة على هامش صدور الكتاب، مفادها أنه فاز بجائزة ابن خلدون ــ سنغور للترجمة، بالتعاون مع المنظمة الدولية للفرنكوفونية، والحديث عن جائزة تُعنى بالترجمة من وإلى اللغتين العربية والفرنسية، في الأدب والعلوم والإنسانية والاجتماعية، استحثت في العام 2007 بموجب اتفاق تعاون مع المنظمة الدولية للفرنكوفونية.