الدار/ منتصر حمادة
منذ عقد تقريباً والحديث عن شعبوية الخطاب الإسلاموي لرئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران لم يكن يتجاوز مقام التفاعلات الرقمية أو بالكاد بعض المقالات العابرة في الصحف والمواقع الإلكترونية، بينما الحديث نفسه من منظور بحثي، نادر جداً، وهذه ميزة هذا الكتاب حديث الإصدار (ط 1، 2022)، للباحث المغربي محمد الأمين مشبال.
ومعلوم أن الشعوبية ظاهرة عمت العديد من دول العالم خلال العقد الأخير (في أوربا مع أحزاب اليمين، وفي أمريكا)، ومن يتابع جديد المجلات الفكرية الغربية، من قبيل المجلات الأمريكية والفرنسية، يتذكر أنه صدرت مجموعة من الأعداد خلال السنوات الأخيرة، كانت ملفاتها مخصصة لموضوع الشعبوية، خاصة في سياق قراءة صعود العديد من الأصوات السياسية اليمينية التي صنفت في خانة الشعبوية، إلى درجة أن دونالد ترامب الذي كان مرح إعلان ترشحه للرئاسيات الأمريكية، قد قوبل بالتقزيم وعدم تصديق احتمال فوزه على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، سيظفر فعلاً لاحقاً بمنصب كرسي الرئاسة. والحديث هنا عن رئيس قوة عظمى على الصعيد العالمي.
أما في الساحة المغربية، فيمكن استحضار الحالة التي يشتغل عليها الكتاب ضيف هذا العرض، وجاء تحت عنوان “الخطابة السياسية الشعبوية عند عبد الإله بنكيران” للباحث محمد الأمين مشبال، مع تقديم حرّره الأديب والباحث عبد القادر الشاوي، وهو تقديم يستحق وقفات تأملية أيضاً، بسبب نوعية الإشارات التي جاءت فيه. (جاء الكتاب في 274 صفحة، وصدر عن منشورات باب الحكمة، تطوان)
هناك أربعة أو خمسة أطروحات جامعية حول شخصية رئيس الحكومة المعني في الكتاب، لم نطلع عليها بعد في سياق التقييم، منها أطروحة الدكتوراه حول الخطاب السياسي للمسؤول السياسي نفسه، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير للطالبة سهام السافير، لم يتردد موقع “عربي 21” اللندني، أحد المواقع المتحالفة مع الإسلاموية العربية في نشر متابعة إخبارية بعنوان “المغرب.. خطاب بنكيران السياسي موضوع لأطروحات دكتوراه” بتاريخ 13 سبتمبر 2019.
لكن هناك عملان في الساحة متوفران للقراءة، حول الموضوع نفسه، مع صرف النظر عن الخوض في محدد الشعبوية، وهما كتاب “الخطاب السياسي لبنكيران: قراءة في الأسس الفكرية والمنهجية” لزكرياء سحنون (صدر في سنة 2016) وكتاب “الزلزال السياسي: ديناميات السياسة قبل وبعد السابع من أكتوبر”، لبلال التليدي (صدر في 2018)، والعملان صادران عن أقلام تنتمي إلى المرجعية الإيديولوجية التي ينتمي إليها بنكيران، وخاصة العمل الثاني الذي جاء أشبه بكتاب دعائي للشخص والمشروع، وليس صدفة أنهما حظيا بدعاية وترويج في المنابر الإعلامية الإسلاموية على الخصوص، بحكم النهل الإيديولوجي، إلى درجة صاحبة الكتاب الثاني وصف عمله بأنه يوثق لما اصطلح عليه “مرحلة الانزياح عن سكة الانتقال الديمقراطي [كذا] بكل تفاصليها، ويواكبها بالتحليل والاستشراق، إذ سيتطرق الكتاب بالأساس لما بعد البلوكاج الحكومي الذي دام حوالي 7 أشهر”، مضيفاً أن الكتاب “يتناول الزلزال السياسي، الذي اغتال الأمل الديمقراطي [كذا] الذي خرج إلى النور مع انتخابات (2011) ورسخت قواعده في انتخابات السابع من أكتوبر (2016)”، وليس هذا مقام الاعتراض على هذه القراءة الاختزالية، بصرف النظر عن المرجعية الإيديولوجية لصحابها، أي المرجعية الإسلاموية، في نسختها الإخوانية.
الأمر مختلف مع مضامين كتاب محمد الأمين مشبال، كما تزكي ذلك النزعة النقدية الصريحة يحفل بها، وبما أن الكتاب في الأصل، أطروحة دكتوراه للمؤلف، فقد تضمن تفاعلاً مع القراءات النقدية التي صاحبت جلسة المناقشة، بمعنى أن النزعة النقدية بقيت حاضرة حتى بعد المناقشة ونشر الكتاب، كما نقرأ في صفحاته (من الصفحة 171 إلى الصفحة 174).
انطلق مشبال في عمله هذا من فرضية تفيد أن الشعبوية، تمثل السمة المهيمنة على الخطاب السياسي لعبد الإله بنكيران، وبكون تواصله السياسي يتغذى ويتلون بالمرجعية الدينية وتحديداً بالخطاب الوعظي، مما يُميزه عن باقي الخطابات الشعبوية في أمريكا اللاتينية وأوربا. ولهذا الغرض، قام بتقسيم الكتاب إلى بابين، حيث تطرق الباب الأول لمفهوم الشعبوية وخصائصها استناداً على دراسات كتاب بارزين في المجال مثل باتريك شارودو وألكسندر دورنا وإرنست لاكلو ووجان ورنر ميلر، وخصّص فصله الثاني لاستعراض تجربة حزب “العدالة والتنمية” من حيث المسير الفكري الذي أفضى به للقبول بمؤسسات الدولة وبإمارة المؤمنين، وكذا تجربته السياسية منذ تأسيسه والتي توجت بتوليه رئاسة الحكومة لولايتين متتاليتين.
في ما يتعلق بالباب الثاني، فقد تطرق إلى تحليل الاستراتيجيات الخطابية المتضمنة في المتن الذي يتكون من عديد من الخطب التي ألقاها بنكيران في مناسبات مختلفة وعلى مدى زمني يناهز سبع سنوات. وقام المؤلف بتقسيم الباب الثاني إلى فصلين، الأول يستعرض أخلاق الخطيب والتجليات المختلفة لذاته عبر خطبه، أما الفصل الثاني فقد خُصّص لتحليل تجليات أخلاق وصورة الخصم عبر تحليل خطب بنكيران نفسها.
بالنسبة لخاتمة الكتاب، فقد تضمنت أهم الاستنتاجات التي توصل إليها المؤلف انطلاقاً من الدراسة التي أنجزها حول الخطابة الشعبوية للحالة المعينة بالدراسة، ولإشكال يهم الاختيار الديمقراطي لحزب “العدالة والتنمية” ومدى عمق المراجعات الفكرية التي قام بها في تسعينيات القرن الماضي من أجل تسهيل والولوج للعمل السياسي الشرعي، وهي الفكرة نفسها التي توقف عندها عبد القادر الشاوي في تقديمه للعمل.
كما تضمن العمل مجموعة من الملاحق الهامة، يتعلق الأول بدلالات الأسماء والأعلام في خطب بنكيران، والثاني حول تعاليق القراء على أطروحة الدكتوراه في وسائل التواصل الاجتماعي، أما الملحق الثالث فقد خُصّص للعديد من خطب بنكيران التي ألقاها ما بين 2011 و2017 والتي كانت موضوع قراءة وتحليل المؤلف. (جاءت الملاحق بين الصفحة 162 و264، وتعتبر وثائق هامة يمكن توظيفها في أعمال بحثية، لأنها تطلبت تفريغ أشرطة وفيديوهات للمسؤول المعني)
في تقديمه للكتاب، اعتبر الأديب والباحث عبد القادر الشاوي أن البحث الذي أجراه المؤلف للخطاب الشعبوي الذي تميز به السيد عبد الإله بنكيران له قيمة نظرية خاصة، غير مسبوقة في جوانب كثيرة بحكم المنهج، لأنه يفكك مقوماته اللغوية والتعبيرية والدلالية، فضلاً عن الرمزية القوية المشبعة بالتصورات الدينية والإحالات السنية الشاوية فيه، مضيفاً أننا إزاء كشف لمنطق الناشط أو الزعيم السياسي من موقع السلطة في التعامل مع المجال السياسي، الذي يصفه بالمجال الشرعي، في التصرف والخطابة ومنافسة الخصوم أو الحط منهم وذم أخلاقهم الدنيوية، فضلاً عن بعض الأشكال السطحية للسخرية السمجة التي تقترن في كثير من الأحيان بالإيحاء الديني قصد ملاعبة عقول الأشياع المنبهرين.
وأورد الشاوي بعض التأملات التي يراها صالحة لاستكمال جوانب النظر في الظاهرة الإسلاموية، ملخصاً إياها في عناصر ثلاثة:
ــ العنصر الأول منها أن وصول الحركات الإسلاموية عموماً إلى السلطة ترافق مع ما يمكن تسميته تنامي الحاجة الدينية المبنية على العقيدة في مختلف المجتمعات التي استقبلتها، وما التعبير الانتخابي عن ذلك، في المغرب مثلاً، إلا الوجه الخفي، أو العلني، الأثر الدين في الحياة والمعاملات، من جهة، وما لأهميته كذلك، من جهة أخرى، في تقرير بعض الاختيارات التي قد تتعارض مع الحداثة، أو مع الديمقراطية، أو معهما معاً؛
ـ أما العنصر الثاني، فقد اتضح أن من الأسباب الموجبة لذلك في تجارب تلك الحركات الإسلاموية أنها، بشكل عام، وقد يكون ذلك بطريقة علنية وفي أحيان بطريقة مستترة، ذات إيديولوجية دعوية، تقوم على المنظور الشمولي الذي يحققه الدين لجميع أنواع التصورات الإطلاقية. فهي، في الاعتقاد والقرار، (وعادة ما لهذين، أي الاعتقاد والقرار، في البرامج السياسية تجليات مختلفة)، تنطلق من “تكفير” المجتمع، وتود تطبيق الشريعة… إلخ متى ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. مع الأخذ بعين الاعتبار أن “التكييف” الذي تقوم به، في بعض الأحيان، لأجل أن تصبح برامجها، تبعاً للمقاومات التي تنشب في المجتمع، يُضاف إلى ذلك أن إيديولوجية الحركات الإسلامية وتأويلها للمعتقد الديني، تنصب نفسها حامية للمجتمع المتدن لما تتصوره فيه من أخلاق وفضائل.. إلخ، فيكون ذلك، بطبيعة الحال، وربما حتمية، في تعارض مع التطور الموضوعي للمجتمع المبني على التعدد والاختلاف والحرية؛
ــ بالنسبة للعنصر الأخير، فمفاده أنه لم يكن بمقدور الحركة الإسلاموية في المغرب أن تصل إلى السلطة أو الحكم إلا بالتسويات التي قامت بها في اتجاهين متداخلين: التسوية الإيديولوجية والعقدية تجاه ذاتها وحركتها، من حيث هبت نظرتها الدينية إلى المجتمع، فكان لها في ذلك وحدة براغماتية خاصة، اقتنعت بها وأقنعت باقي الفاعلين السياسيين بذلك معها؛ أما التسوية الثانية، ففي علاقة بالمجال السياسي الذي هو ميدان ممارستها، إذ تألفت، إلى حد كبير، مع متطلبات العمل في المجال الشرعي من خلال القبول بشروطه وإكراهاته، ضمانا لكسب المغانم (الاقتصادية والإدارية … وغيرها)، فضلاً عن الترقيات المستحبة التي تخولها السلطة لكل طالب وراغب. ويتضح هذا بصورة أكبر، وقد ألحَّت على ذلك منذ البداية، عندما نفترض أن استراتيجية النظام السياسي في علاقة بالظاهرة الإسلاموية عموماً، مع استحضار علاقة الدولة بالدين، تقوم على اعتماد وتوظيف الإسلام کدین ــ وكمنظمة إيديولوجية عقدية أيضاً ــ لتدبير مجالات الحياة العامة والسيطرة عليها كذلك، ففي الاعتماد هذا مفتاح التصور التأويلي الدولتي للدين وللمجتمع على السواء.
واضح أن صدور مثل هذا العمل لا يمكن أن يحظى بإشارات أو إحالات من الأقلام الإسلامية الحركية، بمقتضى المرجعية الإيديولوجية، خاصة أن العمل، ورغم ما صدر حوله من ملاحظات نقدية أثناء المناقشة، يبقى اجتهاداً بحثياً يروم خوض موضوع لم يتم الاشتغال عليه بحثياً من قبل، أي تفكيك النزعة الشعبوية في خطاب عبد الإله بنكيران، باستثناء ما كان يصدر عن شعوبية المعني في بضع مقالات عابرة، ولكن الصمت عن العمل لا يهم الأقلام الإسلاموية وحسب، والتي روجت للكتب أعلاه، ما دامت صادرة عن أقلام تنتمي للمجرة الإسلاموية، وإنما يهم حتى أقلام “يسار الإخوان” التي كانت تعج بها الساحة المغربية مباشرة بعد أحداث يناير 2011، إما حباً في الظفر بمكاسب مادية ورمزية بمقتضى التحالف مع الإسلاموية، وإما ضداً ضد دائرة صناعة القرار، وإما لاعتبارات أخرى، مركبة، تتداخل فيها هذه الأسباب وغيرها.