قراءات رمضانية.. دولة “الخلافة” أو التقدم إلى الماضي
الدار/ منتصر حمادة
ضيف هذا العرض “دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي”، والنموذج مع المشروع الداعشي الذي تسبب في إحراج العديد من الحركات والجماعات الإسلامية الداعية إلى إقامة “الخلافة” من قبيل أدبيات جماعة “العدل والإحسان” هنا في المغرب، بصرف النظر عن مؤشر المراجعات أو التراجع عن هذه الأدبيات التي تشتغل بعقل ما قبل بزوغ الدولة الوطنية الحديثة.
صدر الكتاب عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، وجاء في 464 صفحة، أما مؤلفه، فإنه عالم اجتماع عراقي، تخصّص في دراسة الفكر السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، ومن أعماله نذكر الدولة والمجتمع المدني العراقي، الديمقراطية المستحيلة: حالة العراق؛ معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي؛ المادية والفكر الديني المعاصر؛ بنية الوعي الديني والتطور الرأسمالي؛ المقدّمات الكلاسيكيّة لنظريّة الاغتراب. وله من الترجمات: الاقتصاد السياسيّ للتخلف؛ موجز رأس المال؛ رأس المال؛ نتائج عملية الإنتاج المباشرة.
جاء العمل موزعاً على مقدمة وعشرة فصول وخاتمة، وجاءت الفصول تحت العناوين التالية: الدولة الفاشلة: اختلال بناء الأمة وتعدد الهويات والنزاع؛ الخلافة والأيديولوجيا: التاريخ اللاتاريخي؛ الأيديولوجيا والرموز، أيديولوجيا الدولة الإسلامية؛ مخيال المجتمع المحلي: الصورة الذاتية وتقلّبات المخيال؛ البحث عن مُخَلِّص؛ مستعمرة العقاب – الحياة اليومية في مجتمع “الخلافة”؛ الخلافة الريعية والمجتمع المحلِّي – المال المقدَّس والمال المدنَّس؛ مصائر رجال أعمال الطبقات الوسطى؛ شيوخ وعشائر – دولة الخلافة والمجتمع التقليدي؛ وأخيراً، الولاء والاستتابة وإعادة التثقيف.
وقد خصّصت المقدمة للتعريف بدراسة مِخيال المجتمع المحلِّي تحت سيطرة داعش في العراق، وتنقد التصورات عن المجتمع المحلِّي بتوصيفه حاضنة لهذا التنظيم، حيث اعتبر المؤلف أن الحالة الداعشية ليست نتاج قبول المجتمع المحلِّي، لكنها تُحال إلى إخفاق الدولة في بناء مجتمع تعددي وفي قبولها الفعلي ــ المؤسساتي بالتعدد، وإلى وجود تيار اجتماعي يحمل أيديولوجيا الخلافة في المجتمعات العربية الإسلامية، منذ أمد بعيد.
تناول المؤلف في الفصل الأول مفهوم “الدولة الفاشلة”، من خلال التوقف عند النموذج العراقي، معتبراً أنها أساس نمو الحركات التكفيرية واستشرائها، فلولاها لبقي التيار التكفيري محض تيار اجتماعي صغير، محافظ، ومبغوض، محذرًا من الخلط بين صعود الإسلام السياسي بشكل عام، وهيمنة التيار التكفيري، وأضاف أن “تشكيل الأمة في دولة في حالات المجتمعات غير المتجانسة، يتوقف على انفتاح الفضاء السياسي والاقتصادي والثقافي على أوسع مشاركة ممكنة. وغياب هذا الفضاء المفتوح محنة كبرى، بل معضلة كبرى. ولا يهم إن كان اضطراب الدولة – الأمة ناشئًا عن انقسام إثني، أو انشطار ديني/مذهبي، أو انقسامات قَبَلية أو جهوية، أو بعض هذه الانقسامات أو كلها، فالنتيجة واحدة، توليد كائن مُشوَّه اسمه: الدولة الفاشلة”.
ثمة اختزال في حصر أسباب “الدولة الفاشلة” هنا، ومعها أسباب الداعشية في الشق السياسي الصرف، كما جاء في هذا الفصل، وإن كنا نرى أن الأمر متوقع السماح بنشر هذا الاختزال في مركز بحثي صدرت له بعض الأعمال في هذا السياق، أي سياق تمرير رسائل سياسي عبر البوابة البحثية، وما أكثر الأمثلة في هذا السياق، منها الأعمال التي خُصصت لأحداث 2011، وخاصة الأعمال التي شاركت فيها الأقلام الإسلاموية أو أقلام “يسار الإخوان”.
تميز الفصل الثاني من الكتاب باشتغال المؤلف على موضوع الخلافة، معتبراً أنها تحيل ــ عند الإسلاميين وبعض المشتغلين في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر ــ على “رمز تاريخ تليد مَضِيع، ويوتوبيا بناء تاريخ مجيد مقبل. إنها الماضي والمستقبل في اتحاد مكين. علة طلب الخلافة هي استعادة الدولة، واستعادة الدولة شرط أساس لاستعادة الإسلام نفسه. من هنا تلازُم فكرة الخلافة وفكرة الدولة، وتلازُم فكرة الدولة ومطلب الأسلمة. لكن التنفيذ الآني لم يكن وليد الفكرة القديمة فحسب، بل كان نتاج مسار السلفية ــ هناك في المشرق الشامي، وخاصة في العراق ــ نتاج الدخول العام للكادر العسكري ــ التكنوقراطي من الحقبة البعثية الذي وجد في هذه الفكرة ملاذاً ومُنقذاً من الضلال، والأهم: من الانحسار والنسيان”، ومرة أخرى تتضح مؤشرات اختزال الأسباب التي تقف وراء الظاهرة الداعشية هناك، والأدهى إن صح التعبير، أن يصدر هذا الاختزال عن أحد المشتغلين والمروجين لأعمال كارل ماركس في المنطقة.
ما يزكي هذا الاعتراض، هو عينُ ما نعاينه في الفصل الموالي من العمل، حيث يُحلل المؤلف الأيديولوجية الداعشية، وسبب إحيائها خلافة بقيت مضمرة فترات طويلة، معتبراً أن ما يُميز فكر الدولة الإسلامية بمراحلها المختلفة هو “خلو مقولاتها ومصادرها الفكرية من مفهوم الجاهلية، وحلول مفهوم جديد هو التوحش، أو فقه الدماء، في تقعيد فقهي لإجازة قتل المشركين وقتل المسلمين ممن لا يجوز قتلهم، وقتل النفس التي يُحرَّم قتلها (العمليات الانتحارية)، انطلاقًاً من مقولة إن الأنظمة السياسية الحديثة هي في حدِّ الكفر والردَّة، وهي من ثم دار حرب. ودار الحرب تستوجب الجهاد. وفقه الدماء اسم آخر لكتاب مسائل من الفقه الجهادي، لمؤلفه أبي عبد الله المهاجر، شكل مع كتاب إدارة التوحش لمؤلفه أبي بكر ناجي المرجعين الأساسيين لأيديولوجيا التنظيم”.
بمعنى حتى لو افترضنا أنه لا توجد مشاكل سياسية بنيوية في نظام سياسي ما من أنظمة المنطقة العربية، فإننا هنا إزاء أدبيات إسلاموية تنتظر فرصة التفعيل على أرض الواقع، أي إزاء سبب مفصلي من أسباب الظاهرة، التي أصر المؤلف في أكثر من مقام على حصر أهم أسباب صعود أسهمها في المحدد السياسي كما سلف الذكر أعلاه.
نأتي لمضامين الفصل الرابع، حيث العروج على عدة قضايا منها المعضلة الطائفية، دون تسميتها كذلك، وهذا ملف مسكوت عنه خطاب العديد من الباحثين العراقيين، من قبيل بعض الباحثين الشيعة، من الذين ارتفعت أسمهم بعد سقوط نظام صدام حسين، على اعتبار أن العراق أصبح ملحة استراتيجية تابعة للمشروع الإيراني، وبين أيدنا عدة أمثلة، ونتوقف هنا عند نموذجين اثنين: الأول جاء في الكتاب انطلاقاً من أرضية نظرية ماركسية، والثاني جاء في مقالة للباحث العراقي عبد الجبار الرفاعي انطلاقاً من أرضية نظرية شيعية، وهو مستشار في ديوان الرئاسة العراقي:
ــ بالنسبة للنموذج الخاص بالكتاب، فقد اشتغل المؤلف على دراسة الرموز وعلاقتها بالأيديولوجيا التكفيرية، محللًا مخيال المجتمع المحلي السني قبل غزو الدولة الإسلامية المدن السنية الكبرى وبعده. وتتبدى في هذا الحقل الصورة الذاتية لهذا المجتمع، وتقلُّبات مخياله على امتداد عقدين يمكن تسميتهما فترة الانقلاب في الرؤى. حيث اعتبر أن “التقارب الانتقامي بين البعث والتكفيريين مهّد لبناء هوية طائفية سنّية محارِبة، تُعطِّل المسعى السياسي لباقي القوى السنية، كما تمهِد لتنامي الآمال بظهور مخلص جديد بعد تنامي الأزمات. وذلك بعدما دار مِخيال الجماعات المحلية في المجتمع السني في فك عدمي يتَّسم برفض كل شيء: رفض داعش، ورفض الدولة الشيعية، ورفض الحشد الشعبي الشيعي، ورفض السياسيين السنة في المركز، ورفض السياسيين السنة في المحافظات، ورفض الأحزاب السنية، ورفض الشيوخ، ورفض رجال الدين”.
لا حديث هنا عن الداعشية الشيعية، مقابل التركيز على الداعشية السنية، على أساس أنه لا توجد داعش شيعية، والحال أن الأمر خلاف ذلك، بل إن الجماعات الإسلاموية الشيعية، أكبر بكثير من الجماعات السنية الإسلاموية، وبالرغم من ذلك، لا أثر لهذه التفاصيل الهامة في مضامين الكتاب.
ــ نأتي للنموذج الثاني، ونجده في مضامين مقالة بعنوان “تصوف الحرية وتصوف الاستعباد” بقلم عبد الجبار الرفاعي، مؤرخة في 24 أبريل 2022، ومما جاء فيها أنه “كما انشغل بعضُ أحفاد مؤسِّسي الطُرق الصوفية ببناء التكايا والزوايا، بدوافعٍ في أغلبها ليست روحية ولا أخلاقية ولا إنسانية. دوافعُ تشبه بناءَ المساجد لدى أكثر الخلفاء والسلاطين والحكام المستبدين الذين يبحثون عن مشروعية دينية. الطاغية صدام حسين انشغل ببناء المساجد المدهشة سنوات الحصار المريرة”، ولا كلمة هنا عن الداعشية الشيعية في العراق، ولا بالأحرى أي خوض في السلطوية لدى النظام/ المشروع الإيراني، التي ينطبق عليه نفس ما يتحدث عنه المؤلف، بل وأسواً لأن الإمامة من العقائد في الطوبى الشيعية، بخلاف الأمر عند مجمل السنة (حوالي 85 في المائة من مسلمي العالم).
معضلة صرف النظر عن الداعشية الشيعية حاضرة طولاً وعرضاً في الكتاب، بما في ذلك أحد فصوله الأخيرة، أي الفصل التاسع، حيث خلُص المؤلف إلى أن التصادم بين “الشبكات القبَلية والدولة الإسلامية في العراق أنتج حركة الصحوات المضادة للسلفية التكفيرية، وهو تصادم المجتمع المحلي مع هذه الدويلة، خاصة أن الشبكات القبَلية تعكس مصالح المجتمع المحلي وثقافته، وهي مصالح دنيوية، سياسية واقتصادية واجتماعية، وقيم ثقافية تقف في تضاد صارخ أحياناً مع المنظومة الأيديولوجية للتكفيري. فالقبلي يعيش على العرف، والتكفيري يهيش على التفسير المتزمت للشريعة. والفجوة بينهما كبيرة”، كأن المعضلة التكفيرية في العراق اليوم، لا نجدها إلا عند السنة، مقابل الصمت المطبق عن المعضلة نفسها لدى الشيعة.
ننهي هذا العرض بإشارة نقدية صدرت عن الباحث التونسي عمار بنحمودة، في الكتاب، وذلك لأهميتها في سياق صرف النظر عن الخوض النقدي أو كشف مزالق وتهافت النموذج التفسيري الذي تضمنه الكتاب، وهي إشارة نقدية سبق أن تطرقنا إليها في إحدى المناسبات على هامش الخوض في أسباب هجرة شباب المنطقة نحو العراق وسوريا بعد اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة”، حيث اعتبر بنحمودة أن “دراسة داعش، باعتبارها إنتاجاً محليّاً استثمر في فشل الدولة وإيديولوجيا الخلافة، لا يمكن أن يحجب عن الدارس الدور الإقليمي والدولي في تزويد التنظيم بالمقاتلين أو السلاح، إذ ثبت أنّ الظاهرة كانت تستعمل أحدث الأسلحة المتطوّرة، فضلاً عن أنّ مقاتليها ليسوا جميعا من العراق، وإنّما هم خليط من جنسيات مختلفة يحتاج الأمر نتيجة ذلك إلى بحث في أسباب انضمامهم إلى التنظيم وطرائق تسفيرهم والأطراف التي تدخّلت لتيسّر لهم سبل الوصول إلى ساحات القتال. فتفسير ظاهرة داعش لا يمكن أن يظلّ حكراً على المجتمع المحلّي العراقي، وإنّما يجب أن يُنظر إليه من زاوية التدخّل الأجنبيّ الأمريكيّ منه والروسيّ. فالحسم في القضاء على داعش وتسريع انهياره لم يكن فقط نتيجة تحولات المخيال السنّي. والدليل على ذاك، أنّ المخيال الشيعيّ عانى الكثير من سياسة صدّام حسين، ولكنّه لم يتمكّن من إزاحته عن الحكم. وضعف داعش وانهيارها لا يمكن أن يفسّر بانقلاب المخيال السني، وإنما أيضا بتدخّل أطراف دوليّة طمعت في استثمار داعش ثمّ يئست من تغيير النظام السوريّ، وانتهت بالنسبة إليه مهمّة التنظيم في المنطقة”، وواضح أن هذه إشارة غائبة كلياً في مضامين الكتاب، كما كانت غائبة كلياً في النموذج التفسيري الثاني الذي أحلنا عليه أعلاه.