أركون والطريق الثالث في قراءة الآيات القرآنية
د. منتصر حمادة
لو أن المفكر الجزائري الراحل محمد أركون ألف هذا الكتاب وحسب، لكان ذلك مبرّراً موضوعياً لكي نقرأ أغلب القراءات النقدية التي صدرت في حق لائحة عريضة من أعماله، سواء تلك التي حررها بداية بالفرنسية، أو تلك المترجمة إلى اللغة العربية، منذ عقود مضت.
نحن إذاً، في ضيافة أحدث أعمال محمد أركون المترجمة إلى العربية، والحديث عن كتابه "قراءات في القرآن"، وصدر بداية باللغة الفرنسية، قبل صدور ترجمته إلى اللغة العربية ، وأنجزها كما هو معلوم عند مُتتبعي أعمال صاحب "الإسلاميات التطبيقية"، هاشم صالح، وصدر عن دار الساقي، 2017، وجاء في 686 صفحة، وتضمن الكتاب مقدمة خاصة بالطبعة النهائية التي نتوقف عند بعض مضامينها في الفقرات الموالية، وتليها مقدمة الطبعة الثانية، ومؤرخة في 1991، ثم مقدمة عامة، وبعده اثنى عشر فصلاً، ثم حوار مطول مع أحد الباحثين .
بالنسبة لعناوين فصول الكتاب، فجاءت كالآتي: "كيف نقرأ القرآن اليوم؟؛ "حول مشكلة الصحة الإلهية للقرآن الكريم"؛ "قراءة سورة الفاتحة"؛ "إعادة قراءة سورة الكهف"؛ "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي: دراسة مكانة المرأة في الشريعة الإسلامية"؛ "هل يمكن التحدث عن العجيب المدهش أو الساحر الخلاب في القرآن؟"؛ "مدخل إلى دراسة العلاقات بين الإسلام وبين السياسة"؛ "الدين والمجتمع طبقاً لمثال الإسلام"؛ "الحج في الفكر الإسلامي"؛ "الوحي، التاريخ، والحقيقة"؛ "من أجل قراءة ما فوق نقدية لسورة التوبة"؛ "التشكيل المجازي للخطاب القرآني".
في مضامين الفصل الأول من العمل، نمسك بما يُشبه "اللازمة المنهجية" التي يعتمدها أركون وهي اللازمة التي مَيزت أعماله منذ عقود، وواضح أنها سوف تتكرر في العديد من فصول العمل.
يرى صاحب "الهوامل والشوامل" أنه "إذا انطلقنا من الحالة الروحية والفكرية في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن قراءتنا للقرآن ينبغي أن تنطوي على ثلاث لحظات:
ــ اللحظة الألسنية اللغوية التي ستتيح لنا العثور على نظام بنيوي عميق مخفي تحت فوضى ظاهرية النص القرآني.
ــ اللحظة الأنثربولوجية التي تكمن مهمتها في اكتشاف لغة ذات طبيعة مجازية أسطورية للقرآن.
ــ اللحظة التاريخية، حيث سنحدد مدى أهمية ومحدودية التفاسير التي جربها المسلمون على القرآن منذ أقدم العصور حتى اليوم، ومبتغانا التفاسير المنطقية ـ المعجمية اللفظية، والتفاسير الخيالية".
"حول مشكلة الصحة الإلهية للقرآن الكريم"، هو عنوان الفصل الثاني من الكتاب، ويروم هذا الفصل القصير الإجابة عن السؤال التالي: لماذا تشكل مسألة الصحة الإلهية للقرآن أحد المواضيع الاستراتيجية والأساسية التي ينبغي الاهتمام بها من أجل تأسيس فكر مبدع وخلاق عن مفهوم الدين ودلالته ومعناه؟
يرى أركون أنه بإمكان "الدراسة المُعَمّقة لمسألة الصحة الإلهية للقرآن أن تشكل وسيلة ناجعة لتنشيط الفكر الإسلامي من جديد وجعله ينخرط في المناقشات الفكرية واللاهوتية الكبرى لعصرنا، ولكن بتحقيق ذلك، ينبغي التأكيد من جديد على راهنية حدوسه واستبصاراته الكبرى وكذلك راهنية بعض محاولاته المجهضة وأسلوبه في الشهادة" .
في معرض الإجابة عن السؤال سالف الذكر، سيخلص أركون إلى أن دراسة المشكلة من مختلف أبعادها التاريخية سوف تجبره بالضرورة على طرح تساؤل ذي نمط أنثربولوجي عن منشأ اللغة الدينية ووظائفها ومكانتها المعرفية، وهو سؤال تفرع بدوره عن لائحة أسئلة، منها مثلاً: هل يمكن اختزال القراءات والتفاسير التي أثارها كتاب الوحي السماوي إلى مجرد إيديولوجيات مهمتها إضفاء المشروعية على مصالح الفئات التي ولدتها وتنتسب إليها؟ أم يمكن أن نجد في بعضها حرصاً أساسياً على التنزيه والتعالي والتوصل إلى المعنى النهائي والأخير والنص عليه؟ ومن الأسئلة أيضاً: كيف يمكن أن نفسر العلاقة بين الأشياء الثلاثة: الشرط التاريخي للإنسان، والوساطة المحتومة للغة من أجل الاضطلاع بهذا الشرط، والحنين الجارف والعنيد إلى المعنى النهائي والأخير؟ خاصة أن هذا الحنين كان دائماً قد عبّر عن نفسه في الشوق إلى الانصهار في الكينونة والرغبة الحارقة في البقاء والخلود.
في مضامين الفصل الثالث من الكتاب، وعنوانه "قراءة سورة الفاتحة"؛ كان لزاماً بداية الفصل أو تحديد أهم المناهج المتبعة في قراءة النصوص القرآنية، قبل الاشتغال على مفاتيح سورة الفاتحة، من منظور أركوني، وأحصى منها المؤلف ثلاثة على الأقل:
هناك أولاً طريقة القراءات الشعائرية، وهي، من وجهة نظر الوعي الإسلامي، تبقى وحدها القراءة الصالحة والشرعية والصحيحة؛ وهناك ثانياً الطريقة التفسيرية وهي الطريقة التي اتبعها المؤمنون منذ كانوا قد تعرفوا على المنطوقة الأولى، وعلى هذا النحو، شكلوا أدبيات تفسيرية غزيرة على مدار القرون، ويقصد تفاسير القرآن.
نأتي للطريقة التي اتبعها أركون، ويرى إنها طريقة بديلة، أو موازية للطريقتين سالفتي الذكر، وهي طريقة تنهل مما اصطلحنا عليه بـ"اللازمة المنهجية" في مطلع هذه المقالة، حيث أطلق عليها إسم الطريقة الألسنية ــ النقدية، لأنها تهدف، بقدر الإمكان، إلى تبيان الخصائص اللغوية المحضة للنص المدروس أس نص الفاتحة، ولكنها ستكون نقدية أيضاً بمعنى أن ما جاء في هذا الفصل، يُعتبر قيمة استكشافية وافتراضية في نظر المؤلف.
ومن نتائج الخيار الثالث أو "الطريق الثالث" في قراءة الآيات القرآنية، خلُصَ أركون إلى أن اللغة القرآنية التي توصلت بسرعة إلى مستوى عالٍ من التعبير الرمزي تتيح لنا الإسهام في بلورة نظرية للغة الرمزية تكون على علاقة مع سياق الفكر المثالي المجازي الذي ظهرت في أحضانه، ومع سياق الفكر العلمي الحالي الذي يُعيد اكتشاف اللغة الرمزية وأهميتها.
بالنسبة للفصل الرابع، فقد خُصّص لعرض مساهمة أركونية تندرج ضمن مشاريع "تشكيل طيبولوجيا للخطاب الديني"، أي علم تصنيف نماذج هذا الخطاب وأنواعه، لأننا لسنا إزاء نوع واحد كما قد نتوهم، وإنما إزاء عدة أنواع: الخطاب التبشيري الدعوي، والخطاب التسبيحي التهليلي، والخطاب التشريعي، وخطاب الوعد والوعيد أو الترغيب والترهيب، وخطاب المحاججة ضد المعارضين، والخطاب المجازي الشعري العالي المحلق، والخطاب النثري العادي.. إلخ.
ما لم يتوقف عنده المؤلف في هذا التصنيف، أننا إزاء تصنيف إجرائي، لأنه يصعب حصر لائحة التقاطعات هذا الصنف من الخطاب وآخر، والوقائع المادية الملموسة على أرض الواقع، تعج بالأمثلة في هذا السياق من فرط التباين أو التماهي.
كما يروم هذا الفصل تحقيق هدف عملي يتمثل في "توليد أدوات جديدة وفعالة لخدمة الفكر الإسلامي المعاصر، على أساس أن تكون أكثر فعالية من الأدوات القديمة التي لا يزال يعتقد أنه يتعين عليه البحث عنها في تراثه الكلاسيكي الذي مضى عليه الزمن، فعينه لا تزال مشدودة إلى الماضي أكثر من الحاضر".
مما يُميز أعمال محمد أركون، ورغم تبنيه لنزعة نقدية صريحة ضد العقل الإسلامي، حتى إن مشروعه يُصنف في خانة مشاريع "نقد العقل الإسلامي"، بجرأة معرفية أكبر حسب قراءات أغلب النقاد، مقارنة مع باقي المشاريع النقدية، من قبيل "نقد العقل العربي" مع الراحل محمد عابد الجابري، أو نقد النموذج التقليدي في فهم الدين" مع طه عبد الرحمن ، كونه [أركون] يحمل المطرقة النقدية ضد العقل الغربي أيضاً، كما عاينا ذلك في العديد من أعماله،وهذا ما يعج به كتاب "قراءات في القرآن" أيضاً، بمعنى إن أركون ظلّ وفياً لخيار "النقد المزدوج" بتعبير عبد الكبير الخطيبي.
نقرأ له في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، من كثرة الإحالات النقدية التي توجد في الكتاب، مجموعة من الإشارات النقدية، ونورد منها إشارتان فقط:
أ ــ جاء في الإشارة الأولى أن مجالنا الثقافي طاله "فراغ فكري وعلمي ومنهجي كامل، يعود سببه إلى انعدام علوم الإنسان والمجتمع في الجامعات العربية والإسلامية عموماً. وينطبق ذلك بوجه خاص على كليات الشريعة وأقسام الدراسات الإسلامية ؛ وواضح أنه عندما يتعلق الأمر بموضوع حساس كالقرآن، فإن السائد، حسب أركون، هو إما الرقابة الذاتية التي يُمارسها الباحث على نفسه خوفاً من المحيط الأصولي ، وإما النزعة الامتثالية الجافة المفروضة على الباحثين المسلمين منذ الطبري، لكنها وصلت إلى أقصى حد من التصلب والجمود في عصر الراديكالية الإسلامية المهيمنة حالياً" .
ب ــ جاء في الإشارة الثانية أن الدول العظمى تراعي "حقوق الإنسان داخل حدودها، وتعربد بأسلحتها في البلاد البعيدة، كأن الإنسان صاحب الحقوق، هو فقط المواطن المحظوظ بهذه الجنسية، أما الذين عانوا في فيتنام والعراق والبوسنة والصومال وسوريا تحت وابل الأسلحة التي أنتجتها حقوق الإنسان، فلا حقوق لهم ولا إنسانية"، مضيفاً أن الولايات المتحدة تصنف الأعمال التي تصدر عن "تنظيم "داعش" بأنها "جرائم ضد الإنسانية، ولكنها لا تعترف بأن نشأة الكيان السياسي المسمى اليوم أمريكا كان بارتكاب أفعال شنيعة داعشية، ضد قبائل الهنود الحمر الذين سكنوا الأرض ردحاً طويلاً من الزمن، حتى وفد عليهم الرجل الأوربي الأبيض ، فأبادهم واجتثَّ شأفتهم كي يسلب منهم الأرض".
في الفصل التاسع المخصّص لقراءة شعيرة الحج، يشتغل صاحب "الإسلاميات التطبيقية" على ثلاث محاور: البحث عن إشكالية ما للحج وبلورتها؛ العلاقة الجدلية التي تربط بين الحج وبين الوعي الإسلامي؛ وأخيراً، التوتر الصراعي بين الحياة الدينية وبين الفكر العلمي.
ولعل هذه الفقرة، تساعدنا على تلخيص الأرضية النظرية التي ينطلق منها المؤلف لتنازل موضوع الحج، حيث اعتبر أن "الحج يُمثل طريقة متميزة للبحث الحقيقي عن الكائن الأعظم أو الكينونة المطلقة، لكن هذا الحج ينبغي له بل يمكنه استعادة اللغة القرآنية في وظيفتها الديناميكية الاحتجاجية الراديكالية ضد الظلم والفقر والتفاوت الصارخ بين الطبقات الاجتماعية، وكذلك ضد التصرفات التعسفية، والتلاعبات الإيديولوجية، والتراتبية الاجتماعية الهرمية المبنية على سيطرة فئة معينة على المجتمع واحتكارها الثروات والسلطات. لا ينبغي للحج أن يخضع لمطالب العلم الوضعي المزيفة، بشرط أن يأخذ الإسلام كله المبادرة ويُعيد تجديد فكره بوجه راديكالي وأساسي".