الضرائب المركبة للتجربة الإسلامية الحركية
د. منتصر حمادة
هذه المقالة تهم عمل الإنسان المتديّن الذي مرّ من تجربة إسلامية حركية، سواء كانت دعوية أو سياسية أو قتالية، ولا تهم الإنسان المتديّن الذي لا زال محسوباً على هذه المشاريع، فهذا شأنه، ما دام الأمر يتعلق بحرية الانتماء الإيديولوجي وحرية التفكير وما إلى ذلك.
تروم المقالة التوقف عندما ما قد نصطلح عليه بضرائب ما بعد الانتماء، أو ضرائب ما بعد الإسلاموية، ونقصد بها مجموعة من الطاقات التفاعلية السلبية التي تصاحب المتدين المعني [أي الذي كان إسلامياً سلفاً] أثناء طرق مرحلة ما بعد الانتماء للمشروع الإسلامي الحركي.
لم نتوصل إلى هذه الملاحظة من فراغ، وإنما انطلاقاً من معاين مجموعة من الحالات الميدانية، داخل وخارج المغرب، قاسمها المشترك السقوط في تأدية هذه الضرائب.
ولأنه يصعب حصر هذه الضرائب، فقد خلصنا إلى وجود أربعة ضرائب على الأقل، وتتوزع على المجال النفسي والمجال الأخلاقي والمجال الروحي والمجال الأخلاقي، بصرف النظر عن التقاطعات الوجيهة بين هذه المجالات، ولكننا هنا نورد هذا التصنيف من باب الإجراء والقليل من التفصيل.
سبق أن اشتغلنا على بعض الأمثلة المرتبطة بالمجالين النفسي والأخلاقي، في انتظار الاشتغال على الأمثلة المرتبطة بالمجالين العقلي والروحي، وتكمن أهمية التوقف عند معالم هذه الضرائب، في مساعدة المتديّن المعني، في مرحلة ما بعد الإسلاموية، على هذه الضرائب، لعلها تساعده عملياً على الخروج بأقل الأضرار، من هول هذه الأضرار كما نعاين ذلك على أرض الواقع، والتي تصل إلى مقام الانتقال إلى إيديولوجيات مادية مضادة للإيديولوجية الإسلاموية، بل وصلت الضرائب إلى مقام الإلحاد، وهذه معضلة سوف نتطرق إليها في مقالة لاحقة ضمن هذه السلسلة.
نتوقف هنا إذاً عند الشقين الأولين من الضرائب، أي الشق النفسي والشق الأخلاقي، وبيان ذلك كالتالي:
ــ نبدأ بالضرائب النفسية، فمن المعلوم أن الإنسان كائن مُرَكب الهوية، وفي الحالة الإسلامية [نسبة إلى الإسلام وليس الإسلاموية]، سوف نفترض أن هويته مرتبطة بالانتماء للمجال الإسلامي، لغة (عربية، فارسية، تركية، مالاوية.. إلخ)، وعقيدة (أشعرية، حنبلية، شافعية… إلخ) ومعرفة.
هذا الإنسان المُركب، تتغير أحواله النفسية عند المرور من تجربة العمل الإسلامي الحركي، بمقتضى التأثير النوعي الذي يُكرسه نهله من أدبيات المشروع، من قبيل الأدبيات الإسلامية الحركية التي تحدثه وتجعله مؤمناً إيماناً جازماً بمقتضى مفاهيم "الحاكمية" و"المفاصلة الشعورية" و"الولاء والبراء" و"الطائفة المنصورة" و"التقية" و"التمكين" والبيعة" و"الجماعة قبل الوطن"، ولائحة عريضة من الأدبيات.
بل إن كل مفهوم من هذه المفاهيم يُغذي جهازاً مفاهيمياً يقتضي من صاحبه التأقلم مع المحيط القريب والبعيد بعقلية مغايرة مع مرحلة ما قبل الانتماء، ولو توقفنا مثلاً عند بعض مفاهيم من تلك اللائحة، فإن تفعيل الإيمان الجازم بهذا الاجتهاد البشري وبالتالي النسبي، يقتضي أن يتفاعل معه المتديّن الحركي على أساس أنه يعيش في زمن "جاهلية معاصرة"، وهذا يفرض تفعيل ثنائية "الولاء والبراء"، لأنه ينتمي إلى "الطائفة المنصورة"، التي تشتغل على حقبة "التمكين"، وهكذا دواليك مع سلسلة متشابكة ومُعقدة من المفاهيم التي لا تبقى في مقام التلقي الذهني / المعرفي، وإنما تطال مقام التفعيل على أرض الواقع، كما عاينا ذلك في عدة تجارب في المنطقة، وصل بعضها إلى مقام إراقة الدماء، مع المشروع الإسلامي "الجهادي".
هذه سلسلة مفاهيم تصب في التأسيس لنموذج "المسلم الأعلى" أو "المسلم الفائق" بتعبير عالم النفس التونسي فتحي بنسلامة، وواضح أن مفهوم "المسلم الأعلى" أو "المسلم الفائق" يُحيل على أطروحة "الإنسان الفائق" لنيتشه: إنها نفس عقلية الاستعلاء، بين التداول الفلسفي الألماني، والذي أفرز لاحقاً النزعة النازية، والتداول الإسلامي الحركي، والذي أفرز لائحة من التجارب الدموية في المنطقة، لا زال بعضها قائماً باسم "العمل الإسلامي الجهادي".
ــ نعرج على الضرائب الأخلاقية، حيث عاينا هذه الضرائب الأخلاقية منذ عقدين تقريباً، ونقصد بها صدور ممارسات تعادي الأخلاق عن فاعلين إسلاميين، ولكنهم يزعمون أنهم يدافعون عن "المرجعية الإسلامية" أو المساهمة في "إقامة الدين" في مجتمعات المنطقة، باسم "المقاربة التشاركية" لتدبير الشأن الدّيني، كما نقرأ في أدبيات أحد المشاريع الإسلامية الحركية في التداول المغربي.
كنا نعتقد حينها أن الأمر يطال حالات فردية، تفصل الأخلاق عن الدين؛ أي تصدر عنها ممارسات دهرانية، تفصل الأخلاق عن الدين، تتجاوز سقف الممارسة العَلمانية، التي بالكاد تتحدث عن "فصل الدين عن السياسة"، ولكن عاينا أنه مع مرور الزمن، لم يعد الأمر مقتصراً على حالات فردية، وإنما يكاد يكون معضلة متفشية في أوساط بعض هذه التنظيمات، إلى أن بزغت بعض التطورات العلمية والميدانية، التي جعلتنا نسلط الضوء على معضلة تتجه لأن تصبح ظاهرة في صلب المشروع، ويكفي التوقف عند الحالات الاجتماعية التي سلطت عليها الأضواء خلال السنوات الأخيرة في المنطقة، في المغرب وفي الخارج.
مُحددان اثنان على الأقل، يقفان وراء تسليط الضوء على هذه الضرائب الأخلاقية:
1 ــ مُحدد أحداث "الفوضى الخلاقة": نتحدث إجمالاً على تفاعل الحركات والأحزاب الإسلامية مع أحداث "الفوضى الخلاقة"، والتي اصطلح عليها إعلامياً وبحثياً بأحداث "الربيع العربي"، وخاصة ما جرى في تفاعل الإسلاميين في مصر وتونس والمغرب، وحتى لا يتيه المتلقي في التفاصيل، سنتوقف عند الحالة المغربية.
كان من الصعب الخوض في هذا الموضوع قبل أحداث "الفوضى الخلاقة"، وليس صدفة أن الأعمال التي تطرقت لهذه الجزئية الحساسة، على ندرتها، كان مصيرها التجاهل أو الازدراء، لعل أبرزها ما صدر عن الراحل فريد الأنصاري في ثلاثيته الشهيرة: "البيان الدّعوي"؛ "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب"، و"الفِطرية"، والذي رغم ثقله العلمي الديني، لأنه لا أحد كان يُنافسه في هذا المقام في المشروع الإسلامي الذي كان ينتمي إليه، فقد كان مصيره الاتهامات، على أهمية ما صدر عنه، قبل قدوم أحداث "الفوضى الخلاقة" لتؤكد ما حذر منه في تلك الأعمال.
ولكن المشهد السياسي والاجتماعي والديني مختلف في مرحلة ما بعد أحداث "الربيع العربي"، لاعتبارات عدة، عنوانها أن هذه المستجدات ساعدت الشارع والرأي العام، حتى يمتحن بشكل عَمَلي المشروع الإسلامي الحركي.
2 ــ مُحدد الثورة الرقمية: إن مُجرد اقتران مصطلح "الكتائب الإلكترونية" بالحركات الإسلامية، معطى دال حول الحضور الرقمي لهذا الخطاب الإيديولوجي، والذي لا يمكن لومه، أو لوم باقي المشاريع السياسية الإيديولوجية على الحضور، لأنه من حق أي مشروع منها الترويج لخطابه في الواقع المادي والواقع الرقمي؛ ولكن الأمر يُصبح مغايراً عندما نأخذ بعين الاعتبار الإيحاءات المُصاحبة لهذا الحضور الرقمي عندما نتحدث عن "الكتائب الإلكترونية" التي أطلقتها المشاريع الإسلامية الحركية، بين أن تكون إيحاءات إيجابية أو سلبية.
والحال أن مُتتبع تفاعل الحقل البحثي والإعلامي، بلْه تفاعل الرأي العام المعني، يخلُص إلى أن هذا الإيحاء كان سلبياً، من فرط الممارسات غير الأخلاقية الصادرة عنها، والتي يصعب حصرها، لأن العقل الإسلامي الحركي الذي يقف وراء هذه الكتائب، كان يوظفها من أجل تشويه الخصوم، وتصفية الحسابات، وشيطنة المخالفين، سواء تعلق الأمر بالدولة أو النخب أو المجتمع.
ولكن الشاهد هنا أن ضرائب التجربة أفرزت ممارسات معادية للمشروع التي تدعي الدفاع عنه، خاصة مع الفاعلين الإسلاميين المنخرطين في العمل السياسي، وما كانت المتابعة البحثية ستتوقف عند هذه الضرائب لولا أن أهل هذه التجربة لم يرفعوا شعار "الإسلام هو الحل" في مواجهة مجالات ثقافية إسلامية أساساً وليست جاهلية.