غير مصنف

أُحِبّكَ ولا أُحُب كُرةَ القَدَم

د. بوجمعة العوفي

الكرة في كل مكان .. في المقاهي.. في البيوت.. في غرف النوم والطعام وغرف الجلوس.. على أمواج الإذاعات وشاشات التلفزيون والحواسيب والهواتف الذكية الشخصية .. الكرة في الشوارع وفي الأزقة الضيقة والمُعتمة لوطن عربي قلَّتْ أو كادت تنعدم فيه مناسبات الفرح وسبُل الترويح عن النّفْس أو التعويض عن الكثير من الخيْبات والخسارات والهزائم وضيق ذات اليد .. تهتز المقاهي لصراخ المشجعين، وتصبح الهيستيريا جماعية ! الكرة، هذه " الجّلْدَةُ " المنفوخة بالهواء، هي الوحيدة التي أصبحتْ، ربما، قادرةً على تشكيل الحَدَثَ في حياة الكثير من العرب والمغاربة بامتياز، سواء فازت فِرَقُهم المفضلة أو انهزمتْ في مبارياتها ودورياتها التي تكاثرتْ وتناسلتْ كالفُطْر، في زمن عجزتْ فيه المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية والمغربية، ولسنين طويلة، عن خَلْقِ أحداث مفرحة تستحقها الأوطان .. أصبحتْ كرة القدم حاضرة في حياة الناس وأوقاتهم على مدار السنة !

شخصيا، لستُ من عشاق ومتتبعي كرة القدم وإنجازاتها، لكني أحترم في نفس الوقت هذه اللعبة الجميلة والمذهلة التي تدخل الكثير من البهجة والسرور على نفوس من يعشقونها حدّ الهَوَس أحيانا، وتجعلهم يجدون في إبداعاتها واحترافية فِرَقِها ومهارات لاعبيها الذين أصبحوا بمثابة " أساطير معاصرة " ( " ميسي " و " رولاندينو " على سبيل المثال لا الحصر )، الكثير من المتعة والتنفيس عن ضغوطات واقع سياسي واقتصادي واجتماعي جِدّ مأزوم، وصَلَ في الكثير من المجتمعات العربية إلى درجة الاختناق .. ! 

أضِفْ إلى ذلك أن هذه " الجَّلْدَة " العجيبة كانت سببا في العديد من المآسي بالنسبة للعديد من الناس: بسببها نشأتِ الكثير من الأحقاد والصراعات محليا وقُطْريا ودوليا، تحولتْ فيما بعد إلى حروب صامتة وسرية، مات الكثيرون بسببها وتَفَرّق شمْلُ الكثير من الأُسَر والعائلات .. حَدَثَتِ الكثير من الأعطاب والكوارث بسبب الكرة .. تم إلغاء أو تأجيل مواعيد كثيرة لأنشطة ثقافية وفكرية في الوطن العربي بسبب الكرة، وتم إعادة توقيتها حسب مواعيد بث مقابلات مهمة للكرة .. حتى أنه يُحكَى أن بعض أئمة المساجد " البارصاويين " و " الرياليين " أقاموا صلوات المغرب والعِشاء بالجمع حتى يتيحوا للمُصَلّين فرصة متابعة مباريات حاسمة  ومصيرية لفُرُقِهم المفضلة " برشلونة " و " ريال مدريد " التي  أصبحـتْ ملاعبها الإسبانية بمثابة " قِبْلةٍ " جديدة لـ " دين " جديد أو " أفيون " اسمه كرة القدم .. والمجد لـ " رونالدو " ورفيقه " ميسي " طَوْطَمُ " العالَم الجديد، ولفريق " برشلونة " المُحِبُّ لإسرائيل والمدافع عن " قضيته العادلة " .. ! إذ يكون من اللازم على كل لاعب قادم إلى الفريق البرشلوني أن يَزُور إسرائيل أولا، لأن الطريق إلى هذا الفريق تمر بالضرورة عبر إسرائيل .. وبفضل الكرة تغيرتْ أيضا الكثير من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للكثير من الناس والشعوب على هذه الأرض .. وربما هي ما يمكن أن يقال عنها بحق: " رُبَّ ضَارّةٍ نافِعَة " .. ! 

لذلك، أستعير من الصديقة الشاعرة السورية المتميزة " لينا الطيبي " هذه الجملة الشعرية البليغة: " أحبك ولا أحب كرة القدم "، وأضعها عنوانا أو عتبة ممكنة لهذا العمود المُقتضَب، على هامش ما شهِدَتْه وتَشْهَده في الآونة الأخيرة الكثير من مباريات فريقنا الوطني وأنديتنا الرياضية المغربية مثل " الرجاء " و " الوداد "، أو الأندية الأجنبية المعروفة مثل " البارصا " و " الريال " وغيرها .. وذلك ليس تبخيسا أو تنقيصا من قيمة هذه اللعبة الجميلة ذات الشعبية الواسعة والكبيرة، بل من أجل مُناوِشة ممكنة أيضا لبعض الانعكاسات التي قد تتركها إنجازات هذه اللعبة على نفوس المغاربة، وعائداتها الرمزية ( إن كانت لها من عائدات بالنسبة للمغاربة ؟ )، وخصوصا في تداعياتها النفسية الممكنة على نفوسهم وأحلامهم " الكبيرة " والمُجهَضة، في حالة لم تستمر هاته الإنجازات وتترسخ مستقبلا بما يكفي من الشروط والموضوعية، خصوصا حين يرفع فريقنا الوطني أو الفريق الكروي المفضل لدينا، من سَقْف وأفق انتظارنا، ونُصاب بعدها، في حال هزيمته، بالإحباط وخيبة الأمل، وتلك هي المعضلة والمشكلة ؟

قَطْعا، لا نستكثر هنا وهناك، سواء بالنسبة لفريقنا الوطني في كرة القدم أو بالنسبة لأنديتنا المغربية، مَهْمَا كان حجمها وترتيبها، ما يمكن أن تحققه من انتصارات قد تشبه المعجزة في بعض الأحيان، على أساس أن العديد من انتصارات المغرب الكروية القليلة أو أغلبها تكاد تكون بمحض الصدفة، ( وهذا رأيي المتواضع ويخصني وحدي لا غير )، إذ ليس من الضروري أن يتقاسمه معي الآخرون، ولا أحد،  بالمناسبة نفسها، من حقه أو بإمكانه مصادرة حق المغاربة ( كل المغاربة ) في الفرح بإنجازات كُرَتهم الوطنية، لكن الكثير من المناسبات الكروية والكثير من النتائج المتحققة في هذا الإطار، تستدعي أيضا التفكير في بعض سياقات هذا الإنجاز الكُروي، وأشكال تصريفه وتداوله وتلقيه على المستويين الشعبي والرسمي على حد سواء، وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه ويدركه، بالكثير من الوعي والموضوعية والعقلانية، الكثير من عشاق كرة القدم المغربية، حتى يؤسسوا عشقهم ودعمهم للمنتوج الكروي المغربي على الأداء الجيد والاحترافي فقط لفِرَقِهم ولاعبيهم، وليس على العاطفة أو على إعجاب  أو "عشق أعمى" كما يقال، يكون مبنيا فقط على مسألة الانتماء أو الحس الوطني وحده، إذ بدون نقد موضوعي وعقلاني، لا تتطور التجارب والممارسات والإبداعات والإنجازات، مهما كانت طبيعتها ومجالاتها ..     

من هنا، يكون أيضا على المغرب ( كل المغرب )، بكل مؤسساته وأوساطه الرسمية وغير الرسمية أن يعمل على جعل هاته الإنجازات والانتصارات وأشكال الفرح، التي تَهَبُها الرياضة الوطنية للمغاربة من حين لآخر أكثر مما تفعله السياسة، بمثابة انجازات وانتصارات دائمة وقائمة على نوع من الاحترافية والواقعية والوعي المصاحب لتصريف الفرح والكثير من المقدمات كذلك، ينبغي عقلنة ومأسسة الرياضات والانتصارات كذلك، ومن ثَمَّ استثمار هذا الفرح كمكسب وكمنتوج وطني حيوي قادر على تطوير وتحفيز إبداعية وإنجازات المغاربة في كل المجالات، خارج مسألة الاستثمار العفوي والعاطفي لمثل هاته الانتصارات، وخصوصا حين تَحْصُل فقط بمجرد الصدفة. 

ثم إن المتتبع لأشكال تصريف هذا الفرح الرياضي الوطني ( غير المبني أحيانا على وعي حقيقي بالاحتفال )، وخصوصا بالنسبة لردة الفعل الشعبي داخل فضاء شبكات التواصل الاجتماعي، قد يصاب بالكثير من الذهول للطريقة التي يتم التعامل بها مع شخصية " المُنهزم "، إذ كيف يُعقل أن تعمل نفس اليد المغربية التي جرّدتْ " رونالدينيو " من حذائه الرياضي وملابسه داخل الملعب، تيمنا بهالته ونجوميته و" بركاته "، على تشويهه في الصورة وفي الكلام في مناسبة أخرى لاحقة ؟ الأمثلة كثيرة ومتعددة، حيث تفننتْ " إبداعات الهامش المغربي " مدعومة بهستيريا الاحتفال والانتصار، وبالرغبة الدفينة والمحبوسة في " الانتقام " من " الخصم " ومن الذات كذلك في التنكيل بصورة اللاعب – الأسطورة " رونالدينيو " ( والعُهدة على الفوتوشوب ): فمرة يظهر النجم الرياضي متسولا بجلباب مغربي في ساحة " جامَعْ الفْنا "، ومرة أخرى قرويا على ظهر حمار يشد الرحال إلى بلاده البعيدة عبر جبال الأطلس الوعرة .. 

هل نحن أمام " شيزوفرينيا " كروية ينتجها العرب والمغاربة معا في تعاملهم مع الرياضة ورموزها وإنجازاتها المفتوحة دائما على الانتصار والهزيمة، على الموقف والوقف المضاد، وعلى تبجيلٍ غير مُعَقْلَنٍ أحيانا لرموز كرة القدم المحليين والدوليين على حد سواء، هم الذين لا تحكُمهم، في الغالب، سوى تلميع صورتهم والرفع من ثمن عقودهم ومكاسبهم المادية في آخر المطاف، ضاربين بعرض الحائط إعجاب محبيهم ومشجعيهم المهووسين وعواطفهم الجياشة وغير المشروطة ؟    

وبما أن الانتصارات الحقيقية هي نتائج لمقدمات وإنجازات موضوعية وواقعية ( مثل واقعية واحترافية الكرة الأوروبية واللاتينية )، يمكنني التأكيد على أن الكرة صناعة، والفرح صناعة، والانتصار صناعة كذلك، ولكوني لا أومن بالمعجزات التي قد تصنعها في بلدي وفي سائر الوطن العربي كرة منفوخة بالهواء، أقول بأن الحب وحده هو الذي يصنع المعجزات، بما في ذلك حب الوطن وتُربته وطاقاته الغنية، ليس في مجال كرة القدم فقط، بل في الثقافة والفن والفكر بشكل عام، إذَّاك يكون على نفس الفرح ونفس الحشد الذي يزلزل المقاهي هاتفا للكرة، ويخرج للاحتفال بإنجازات الكرة، أن يَهُبَّ بنفس الكثافة ونفس الحماسة لمتابعة وحضور الأنشطة الثقافية والفنية والفكرية التي أصبحتْ في بلادنا العربية بضاعة كاسدة .. على نفس الحشد الكروي كذلك أن يهتف، بالكثير من الوعي والتعقل والتحضر، لمحاربة الفساد والمفسدين على امتداد خريطة الوطن العربي، ولبناء وطن تسوده الحرية والعدالة والمساواة والحياة الكريمة .. عدا ذلك، سأظل أردد كمغربي وككل عربي مع الشاعرة " لينا الطيبي "، مخاطِبا وطني المُشتهى أو المَحلُوم به: " أحبكَ ولا أحب كرة القدم " .. !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة عشر − سبعة =

زر الذهاب إلى الأعلى