فن وثقافة

حكايات يهود بني ملال.. حلقات يكتبها طلحة جبريل (الحلقة الرابعة)

الرباط/ الصحافي والكاتب: طلحة جبريل

عبد النبي وعمار.. صداقة وتعايش بعيداً عن التعصب والتمييز

عاش اليهود والمسلمون حياة مشتركة في "القصبة"، إلى حد أن بعض سكان المدينة العتيقة في بني ملال يصفون ذلك الجوار والتساكن بأنه كان بمثابة "حياة أسرية مشتركة". 

تقول مصادر محلية إنه لم يكن هناك "ملاح مغلق" كما كان الشأن في عدد من المدن المغربية. بالمقابل هناك من يقول إنه كان يوجد "ملاح" لكنه لم يكن يعرف بهذا الأسم ، بل كانت الأزقة والشوارع في المدينة القديمة تعرف فقط بأرقامها.

أجمعت جميع الروايات الشفوية المتداولة في المدينة أن عملية تهجير يهود بني ملال كانت قسرية ، ولم يكن اليهود يرغبون في مغادرة مدينة عاشوا فيها دون مشاكل تذكر مع جيرانهم المسلمين .

وعلى الرغم من مرور ستة عقود على تلك الهجرة القسرية ، ما زال اليهود المغاربة الذين هاجروا إلى فلسطين المحتلة يشكلون مادة للكثير من الكتابات. بعض هذه الكتابات تتحدث صراحة عن مؤامرة خططت لها المخابرات الإسرائيلية (الموساد) بدهاء شديد.
كانت تلك المؤامرة تقتضي إغتيال بعض اليهود المغاربة وتنسب تلك العمليات إلى مغاربة مسلمين ، وبث الخوف في نفوس اليهود بأن ذلك سيكون مصيرهم إذا بقوا في المغرب.

تقول بعض المصادر إن عمليات الاغتيال تلك  كانت تهدف أيضاً للضغط على الملك الحسن الثاني دولياً من أجل السماح بهجرة اليهود، حيث ظل سنوات يعارض تلك  الهجرة، وكانت عمليات الإغتيالات تهدف كذلك إلى  ترهيب اليهود أنفسهم. 

كان آخر الإصدارات بشأن تلك الهجرة القسرية، كتاب صدر بعنوان "إسرائيل على المقاس" للكاتب اليهودي "أفي بيكارد".  وفي هذا السياق يقول محمد الحجام ، ذاكرة بني ملال، إن  المؤرخ "بار إيلان" كشف النقاب في بحث نشرته صحيفة" يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية ،أن عملاء الموساد قتلو يهود مغاربة داخل السجون المغربية بأوامر أعطيت من رئيس الموساد الذي كان يقول لهم أن "القضية اليهودية" تحتاج لشهداء يهود ، على حد زعمه".

يتحدث الدكتور عبدالنبي الحلماوي  عن ظاهرة " التعايش" بين المغاربة المسلمين واليهود في بني ملال ، فيقول " كان  حجم اليهود الملاليين كبيرا جدا قبل الهجرة . كانت علاقات المسلمين تختلف من شخص إلى آخر، وهذا مرده للتربية التي يتلقاها كل فرد من المسلمين".

يمضي قائلاً "ربطتني علاقة وطيدة مع صديق  طفولة من عائلة يهودية إسمه "عمار ميير أسولي". كان عمار يتعرض للضرب من طرف زملائنا المسلمين  في المدرسة، فقط لأنه يهودي..أعتقد أنها مسألة تربية حيت كانوا يروجون في المدرسة أنه "يهودي"، وينتقدون صداقتي معه، ومزايدات فارغة كان يروجها الأطفال خلال تلك السنوات".

يتذكر الدكتور الحلماوي تفاصيل تلك الفترة فيقول" كان والدي عمار يعرفون أنني أحميه في المدرسة من اعتداءات الآخرين، لذلك اعتاد أن يرافقني داخل وخارج المدرسة.كنت أعزه كثيرا وتجمعنا علاقة قوية ليس فيها أي شعور أو علاقة بالإنتماء الديني، كان يخبر أسرته بما يحدث في المدرسة، ويقول لهم أن بعض زملائنا يضربونه  لكونه يهودياً وأنني كنت ادافع عنه.

ذات مرة  حملت أمه  شريطاً  سجلت عليه أغنية عن "اليهود والمسلمين" وحاولت أن تشرح لي أنه يجب على كل جانب أن يتقبل ديانة الطرف الثاني. كنت مقتنعا بهذه الفكرة مسبقا على الرغم من صغر سني، لأنه سواء في محيطنا العائلي أو في الحي كان جيراننا من اليهود وتجمعنا معهم علاقات طيبة وليس بيننا أي خلاف . لم تكن مسألة اختلاف الانتماء الديني أو اللغوي أو العرقي  مطروحة  في ذهني .قالت لي والدة عمار: نحن مثل بعضنا في الدين والإله واحد فقط يختلف الأنبياء، وأدارت شريط سجلت عليه قصيدة  بعنوان "اليهود والمسلمين". تقول  كلماتها:

"يهود ومسلمين كونو مفاهمين 
إسحاق واسماعيل خلقهم رب العالمين  
إبراهيم الخليل أبوكم وابونا 
علاش نكرهوكم وعلاش تكرهونا 
آجي نعملو سلام ونعيشو في الهنا 
آجي نعملو سلام وتزيان المعيشة "

كان اليهود المغاربة يحاولون بهذه القصيدة كسب تعاطف الطرف الأخر لأن الأغلبية الساحقة من المسلمين، كانوا هم الأقلية المتميزة بثقافتها وعاداتها رغم اندماجها في المجتمع".

يمضي الحلماوي قائلاً " استفدت منهم كثيرا على الصعيد الشخصي . إذ حببوني في القراءة، وكيفية الجلوس في المجالس وآداب الحديث والأكل، إذ على الرغم من أنهم ولدوا وشبوا في المغرب لكن على الأغلب كانوا مرتبطين بعائلاتهم التي تعيش في فرنسا، على وجه الخصوص عائلة عمار، قبل أن تهاجر إلى إسرائيل .

كنا نسكن في مناطق شعبية. لكن عندما تدخل لمنزل اليهودي  تجد نظاما مختلفا عما تجده في بيت المسلم . حيث كانت تعيش عائلات راقية وسط أحياء شعبية . كانت طريقتهم في الأكل مختلفة ، ولم نكن نعرف خلال تلك الفترة ثقافة مائدة الأكل في شكلها الحالي، لكن  في منزل اليهودي المغربي تجد طاولة للأكل وكراسي منظمة بشكل راق مع الملاعق والشوك والسكاكين  ومزهرية للزهور يأتون بها من مزرعة تملكها يهودية تربطها بهم علاقة ليست عائلية بل مبنية على الانتماء الديني. كانت تعيش هي وزوجها في تلك الفترة بضواحي بني ملال ، لكنها هاجرت لاحقاً. كانت طريقة أكلهم مختلفة وطريقة رقصهم مختلفة . يحبون المطالعة كثيرا ويخصصون حصصاً للقراءة ويعتبرونها وسيلة لتطوير القدرات المعرفية والانفتاح على عوالم جديدة . أنا مدين لهم بهذه الأمور التي اكتسبتها من عندهم . كنت في سن الثانية عشر وكذلك عمار في نفس الس ، وكان له ثلاث أخوات شانتال وجانيت وميشال، أعتدت أن أمضى معهم فترات طويلة ، كنا نذهب يوم  السبت لتلك المزرعة  نلعب مع بعضنا بعضاً ونقضي وقتا ممتعاً. كان عمار يرافقني للمنزل  مثلما كنت أرافقه إلى منزله،  وأحياناً أمضي الليل معه، وكان بدوره يفعل الشئ نفسه.

ومن بين ما أتذكره من تلك الفترة أن خالتي وكانت إمرأة مسنة وعندما كنا نتجاوز حدودنا في اللعب والمزاح ، توبخني وتقول لي "آداك اليهودي آش درتي " ، كنا نضحك معاً على الطريقة التي كانت تناديني بها. كما أن  والدي عمار كانوا ينادونني بنفس الطريقة،  فهمت عندها أن حمولة تلك الكلمة قد ذابت ولم يعد لها معنى قدحي بقدر ما كنا نعتبرها مزاحا".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى