فن وثقافة

حكايات يهود بني ملال..حلقات يكتبها طلحة جبريل (الحلقة الخامسة)

الرباط/ إعداد الكاتب والصحافي: طلحة جبريل

تركوا خلفهم  إعصاراً إنسانيا وسط جيرانهم و مشاعر وعواطف أفلتت من كل قيد 

كانت هجرة اليهود من بني ملال من أغرب الهجرات ، ذلك أن الأغلبية الكاسحة منهم لم ترغب في الهجرة على الرغم من ضغوط وإغراءات  "الوكالة اليهودية"، لذلك اكتسى رحيل أولئك اليهود من مدينتهم في الستينيات طابعاً حزيناً وكئيباً. 

لكن قبل اقتلاع هذه الطائفة من أرضها، كان موضوع الهجرة  قدعرف بداياته مع مجئ الحماية الفرنسية إلى المغرب في عام 1912، في هذا الصدد يقول المؤرخ  اليهودي حاييم الزعفراني "صدرت أحكام متسرعة دون روية فيما يتعلق باتصال اليهودي المغربي بالمجتمع الأوروبي ونمط عيشه واقتصاده وثقافته، فادعت أن هذا الاتصال كان نتيجة طموحه من أجل العيش على "النمط الأوروبي" وتبني مظاهره الخارجية تلك التي تميز "المعمرين الفرنسيين".. كما ادعت ان الطائفة اليهودية في المغرب لم تكن في وضع مريح تماما نظرا لما كانت عليه نتيجة تيارات مختلفة واتجاهات متعارضة تتوزع بين أنواع من الوفاء يستحيل التوفيق بينهما.وكل هذا في حقيقة الأمر، لم يكن يمس إلا شريحة محدودة في المجتمع اليهودي المغربي، تلك التي تخص بعض العائلات التي كانت تتمتع دائما بالامتيازات في المدن الكبرى والتي استطاع أبناؤها ان ينالوا حظاً وافراً من التعليم، لما كانت تتوفر عليه من وضع ملائم في المجال الاقتصادي والمهن الحرة. اما الجمهور العريض فانه لم يتعرض إلا قليلا للمشاكل الناتجة عن التغريب والتعلم تلك التي اقلقت نخبة الأقلية المثقفة والغنية".

كان "يهود بني ملال" ونظراً لطبيعة المنطقة جزء من "الجمهور اليهودي العريض" ، إذ امتهن معظمهم مهناً يدوية ولم يكن بينهم أثرياء كما كان شأن اليهود في الدار البيضاء وفاس على سبيل المثال .

يقول حاييم الزعفراني "ظل هذا الجمهور العريض في معظمه، غريباً عن إغراءات الغرب، متجاهلاً الجدل الذي كان يملأ اعمدة الصحافة اليهودية المغربية. او ما كان ينشر في منشورات اخرى لم تكن دائماً سليمة الطوية. ..استطاع اليهودي المغربي أن يمارس حياة داخلية لا ينقصها الا الفرح الهادئ ولا التفاؤل بل  تنقصها حتى التطلعات الروحية التي تخفف عنه مرارة الوجود".

ويلاحظ حاييم الزعفراني إنه بعد قيام اسرائيل "بدأنا نشاهد تمزق الطائفة اليهودية المغربية وهجرة الاغلبية الساحقة من افرادها. وهكذا حكم بالاختفاء نهائيا، على مجتمع ظل مستقرا في موطنه منذ ما يقارب من الفي سنة، وعاش في مدنه و بالمناطق الفلاحية وهضاب الأطلس وتخوم الصحراء. ولم يبق الآن من بين 250000 نسمة من السكان اليهود الذين كانوا يسكنون الملاح  في المدن، إلا أعداداً قليلة  تمركز أغلبهم في الدار البيضاء”.

ثم يقول الزعفراني "اختارت بعض المجموعات فرنسا وكندا وامريكا اللاتينية موطنا هاجرت اليه، واتجهت الأغلبية الساحقة الى "ارض الميعاد"(فلسطين) عن طواعية، وكونت مع جماعات اخرى من اليهود الشرقيين، مجتمعااً منفصلاً متميزاً عن المجموعة الاشكنازية التي جاءت من أوروبا الوسطى او الشرقية أنه مجتمع البروليتاريين و "سود إسرائيل"، الذي يشكل في واقعه الرف الثاني "للبيض" المؤسسة المسيطرة التي كانت تستقطب منها، منذ الانتداب البريطاني الطبقة القائدة والسياسية ونخب الثروة والثقافة. كان البحث عن الثروة و الأمل في أمن اكثر، و تحرر اجتماعي وقانوني أعظم، يقود مئات من اليهود المغاربة  قبل توجههم نحو فلسطين ، ان يهاجروا نحو الولايات المتحدة و الأرجنتين والبرازيل أو البيرو. ولم يكن اغلب هؤلاء المهاجرين بحاجة ليذهبوا بعيدا إذ كانوا يستقرون في أغلب الأحيان في الجارة الجزائر التي أصبحت تحت السيطرة الفرنسية منذ 1830 أو في جبل طارق، المركز الرئيسي للتبادل التجاري بين بريطانيا والمغرب”.

ظهرت بوادر مجموعات متطرفة في طنجة وتطوان والصويرة وفاس ومراكش بالتزامن مع دخول الحماية الفرنسية. ثم ظهرت بعد فترة  في الدار البيضاء. كان لافتاً أن يهود بني ملال سواء في المدينة أو في بعض القرى المحيطة لم ينجرفوا مع دعوات التطرف والهجرة نحو " أرض الميعاد" على حد زعم "الوكالة اليهودية".

يقول الزعفراني " عند قيام اسرائيل عام 1948، كانت مختلف الاحزاب السياسية الإسرائيلية ممثلة في المغرب بواسطة مبعوثين يحملون معهم صراعهم و منافساتهم ونزاعاتهم من اجل النفوذ. وكانت الدار البيضاء مقر "الكاديما" وهي المكتب الذي كان ينظم الهجرة رسمياً، حيث هجرت مجموعات كبيرة من يهود المدن الفقيرة، ويلاحظ انهم كانوا يفضلون الشباب وسكان الجنوب المغربي وجبال الاطلس، لانهم كانوا يرون في هؤلاء القدرة على تاسيس المستعمرات الفلاحية الأمر الذي لا يقدر عليه سكان المدن".

الملاحظ أن " وكالة الهجرة " ركزت على يهود بني ملال خاصة في ضواحي المدينة، على اعتبار أن لديهم خبرة في المجال الفلاحي .كانت هجرة جماعات الأطلس والجنوب المغربي، ما بين 1952 و 1956 وفي السنوات التالية تخضع لأهداف محددة وتتم حسب طرق ممنهجة.

لم يكن سكان المناطق النائية مثل بني ملال ، أي تلك البعيدة عن المراكز العمرانية الكبرى، يرغبون في  السفر،  ولم يتسابقوا للتسجيل في مكاتب "الوكالة اليهودية" ضمن قوائم المغادرين، كما يعتقد وكما يدعي مسؤولو الوكالة ، بل كانوا ينتظرون في "ملاحهم" المنعزل، إلى أن تأتي الوكالة إليهم لأخذهم ونقلهم في مجموعات الى ما وراء الحدود المغربية، بعد التوقف لمدة  قصيرة بالدار البيضاء أو مراكش. لم تكن تستغرق العملية  أكثر من ليلة او ليلتين في بعض الحالات، ويتم تحضيرها بدقة متناهية".

لعل من المفارقات أن يهود بني ملال عندما شرعوا في الهجرة في دفعات ، كانوا يبكون وينتحبون حزناً على فراقهم لأرضهم، وعندما يسألهم الجيران كما قالت لنا سيدة متقدمة في السن ما تزال تسكن في " حي القصبة" عن سبب هجرتهم، كان يقولون إنهم مجبرين على المغادرة ، لكنهم لم يحددوا الجهة  التي أجبرتهم على ذلك وبيع منازلهم وأثاثهم المنزلي. كانوا يصعدون إلى حافلات في رحلة لم تكن مقدرة أو مقررة. وتركوا خلفهم  إعصاراً إنسانيا، وسط جيرانهم، و مشاعر وعواطف أفلتت من كل قيد واختلط فيها الحزن بالاستغراب. 

كان سؤال الجيران : لماذا هاجروا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 − 7 =

زر الذهاب إلى الأعلى