غير مصنف

الموارد الاقتصادية للثقافة: السياحة الثقافية (2-3)

د. مراد الريفي العلمي

في معرض تقديمه لرؤية 2020 التي تهم استراتيجية تنمية السياحة بالمملكة المغربية، أعلن لحسن الحداد وزير السياحة السابق، أن 80% من العدد الإجمالي للسياح الأجانب، أي أزيد من ثمانية مليون، يزورون بلدنا بدوافع ثقافية، في حين أن %20 فقط تجلبهم الشواطئ المغربية. ويعني هذا أن مضمون العرض السياحي المغربي ثقافي بامتياز، إذ يعتبر المغرب قوة تراثية كبرى، كما نعته فيديريكو مايور المدير العام السابق لليونسكو ، بمراكزه الحضرية التاريخية التي يبلغ عددها 32، وبتراثه المعماري المتنوع المكون من العمارة الطينية، والطراز الأندلسي في التعمير والعمارة، ومدنه الحديثة ذات الطراز الفريد المسمى art déco، المبني خلال الفترة الاستعمارية، ومواقعه الأثرية الممتدة من ما قبل التاريخ إلى الفترة الإسلامية، ومواقعه المنظرية، وتراثه اللامادي المتسم بالتفرد والعراقة، والذي يمثله تراثه المطبخي ومهارات صناعه التقليديين، ومظاهر طرائق وفنون عيشه من لباس واحتفال، ومعارف وطقوس وعادات وممارسات.

وليس خاف أن الاستثمار الأمثل لهذا الرصيد من شأنه، علاوة على رفع مردودية الاقتصاد الوطني بشكل لافت، أن يحقق سلسة من الأهداف المترابطة المشكلة لمنظومة التنمية المستدامة في شموليتها. فإذا كان الاعتراف الرسمي بالسياحة الثقافية قد صدر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة سنة 1963، باعتبارها مجالا لدعم مفهوم الصداقة والتفاهم بين الشعوب، فمنذ ذلك الحين إلى يومنا، فرض واقع ممارسة أنشطة السياحة الثقافية بالعالم، فهما متجددا لهذا الميدان الفسيح، حرصت منظمة اليونسكو على وضع إطاره العام عندما بررت جدوى الاهتمام بتضمين السياحة الثقافية في إطار وضع السياسات الثقافية الوطنية، كما يلي: " ليس فقط لأن السياحة الثقافية تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية… وإعادة إحياء الصناعات الحرفية والمهن التقليدية… بل لأنها تؤمن فرص عمل للشباب وتحد من الهجرة… ولأنها تعتبر ميدانا ملائما لحوار الحضارات والثقافات.. وتحافظ على معالم وممارسات ثقافية مهددة بالضياع".

إن السياحة تصبح ثقافية حين يكون وراء اختيار السائح لوجهة دون أخرى دافع ثقافي. ويعني ذلك أن العرض السياحي الوطني يجب أن يخلق هذه الدوافع من خلال خطة واضحة يجب أن تدور في فلك علامة المغرب Marque Maroc. وهي العلامة للأسف التي لم تُحْدَث بعد، والتي يجب أن توحد كل المبادرات والأنشطة والمشاريع التي تقدم رصيدنا الحضاري والثقافي والسياحي للعالم حسب مقاييس مدروسة وشروط محسوبة. فلا يمكن مثلا السماح باستمرار الطريقة المكرورة والفلكلورية التي تسوق بها صناعتنا التقليدية. ولعل غياب هذا المضمون التسويقي في إطار ما يسمى Brand content، هو الذي حذا بجون نويل كابفيرير Jean-Noël Kapferer، باعتباره خبيرا عالميا مرموقا، متخصصا في صناعة العلامة التسويقية للدول، أن يعلق في مقال تعقيبي على دراسة بريطانية شملت 118 دولة، حول صورة الدول انطلاقا من مقاييس اقتصادية، ثقافية واجتماعية، صنفت المغرب في الرتبة 61، أن وضعية المغرب لا تتناسب مع مؤهلاته الكبرى، "وأنه آن الأوان ليبني علامته بشكل متكامل ومندمج، لأن تخلف أي بلد عن صناعة صورته، يفتح المجال واسعا أمام المنافسين ليقدموا صورة عنك تناسب مصالحهم."

لقد أقرت وزارة السياحة فشل رؤية 2010 في تحقيق الأهداف التي رسمتها كونها تأسست على الرفع من الطاقة الإيوائية متجاهلة مضمون الجاذبية السياحية وهو مضمون ثقافي بالأساس، كما اعترف السيد وزير السياحة السابق بكل شجاعة ومسؤولية، أن رؤية 2020 هي إعادة مركزة recentrage الرؤية حول الثقافة، باعتبارها قطب الرحى في صناعة جاذبية الوجهة المغربية. حيث قدمت الوزارة على عهده معطيات مهمة، منها أن المغرب يتوفر على 1500 مورد/نقطة سياحية، لا تستثمر منها إلى 350 موردا أغلبها لم تستفد من أي برنامج للتأهيل ورد الاعتبار. إن الموارد المجالية لسياحتنا الوطنية مازالت لم تحدد بدقة ولم يتم تغطيتها بشكل شامل، إذ يمكن تصور تصنيف المواقع السياحية بحسب قيمتها الثقافية أو التراثية بنفس طريقة تصنيف المواقع ذات الأهمية البيولوجية SIB، حيث يمكن إعداد أطلس المواقع ذات الأهمية السياحية SIT (site à intérêt touristique). وهو التصنيف الذي من شأنه أن يفتح أوراشا كبرى تنشط دورة الاقتصاد الوطني بالنظر إلى كون المواقع ذات الأهمية السياحية الثقافية جد متنوعة وتغطي كل التراب الوطني، ومن شأنها أن تخلق فرص شغل متعددة في مهن ثقافية مختلفة. فيكفي أن نقف عند مجالات النشاط السياحي ذات الجذب الثقافي، لنتبين مدى تنوعها وغناها في نسق الثقافة المغربية. 

السياحة الدينية: إن مناسبات المواسم الدينية وزيارة مقامات الأولياء الصالحين بما فيهم أولياء الطائفة اليهودية المغربية، ما زالت تشكل نقطة جذب كبيرة لحركة سياحية جد نشيطة، فحسبنا التذكير بالتجمع البشري الكبير بزاوية مداغ البودشيشية، وموسم سيدي عبد السلام بن مشيش، وموسم مولاي ادريس زرهون والأمثلة كثيرة، ومجموعة المزارات الدينية اليهودية ومنها

موسم "رابي حايم بينتو"، وموسم "أولاد بن زميرو" بآسفي، وموسم "رابي عمران بن ديوان" بوزان"، وموسم "دافيد بن باروخ" بمدينة تارودانات الذي عرف بكونه مزارا دينيا منذ أكثر من قرنين. يالإضافة لسياحة الأماكن الدينية ذات الحمولة التاريخية أو الرمزية الكبرى، كزيارة المساجد الكبرى بالمدن العتيقة، وما شكله مسجد الحسن الثاني من بؤرة سياحية بلغ إشعاعها العالم بأسره. ولعل جو الطمأنينة والتعايش والتسامح الذي طبع دوما الشخصية المغربية، هو الذي يجعل من هذا النوع من السياحة أداة فعالة للتسويق لصورة المغرب كبلد منفتح على جميع الديانات السماوية، يمارس فيه أتباع الديانات شعائرهم بكل سكينة وأمان، إذ لا يمكن أن تفلح بعد المحاولات المتشددة المتطرفة في طمس هذه الحقيقة التاريخية.
السياحة التراثية: وهي تعكس تلك الحركية المرتبطة بزيارة شواهد التراث الحضاري خصوصا منه المادي والأثري. وقد انتبهت بعض الدول إلى أهمية هذه الشعبة من شعب السياحة فأحدثت برامج خاصة بها، من قبيل برنامج الإرث الأندلسي el legado andalusi، الذي قدمته إسبانيا كبرنامج خاص بالسياحة التراثية، عرف استقطاب الملايين من الزوار ، في الوقت الذي يشكل هذا الإرث تاريخا مشتركا مع المغرب، لم ينخرط فيه بلدنا بإعداد برنامج مقابل، علما أن أعلام هذا الإرث ما زالت تحتفل بهم إسبانيا ولا نقيم لهم بالا، كان آخرهم لسان الدين ابن الخطيب، مجدد فكر التسامح، الذي احتفلت مدينة لوشة الاسبانية سنة 2012 بذكرى وفاته السبعمائة، احتفالا تاريخيا.

ويشكل تراثنا المادي رأس حربة عرضنا الثقافي لما يزخر به بلدنا من تراث معماري وعمراني متنوع، ومن حقنا أن نفتخر بإشراف الملك محمد السادس شخصيا على البرنامج الوطني لتهيئة المدن العتيقة والذي يعتبر مفخرة بحق، ستعيد لمدننا التاريخية بريقها الحضاري بعدما طالها النسيان لسنوات عديدة (ولنا عودة للموضوع بتفصيل)، كما نعتبر من الأمانة تثمين مبادرات وزير الثقافة والاتصال الدكتور محمد الاعرج، في تحسين مستوى تدبير المعالم التاريخية وسعيه الحثيث إلى رد الاعتبار إليها والمحافظة عليها وصيانتها.

سياحة المجموعات الثقافية (tourisme communautaire): لقد برز مثلا في دراسة الدكتور محمد بريان حول السياحة الوطنية، العدد الهائل للمواسم التي كانت تتجاوز الألف والتي أصبحت الآن حسب إحصاء لمديرية الجماعات المحلية تناهز الأربعمائة، وهي مناسبات لاحتفال تجمعات قبلية بموسم الحصاد والجني، تشكل بحق ملتقى لمختلف تعابير التراث غير المادي للمنطقة التي يقام بها الموسم. ومازالت هذه المواسم أهم مستقطب للحركية السياحية الداخلية، لكنها لم تستثمر الاستثمار الجيد لفتحها على السياحة الأجنبية، باستثناء موسم طان طان والذي بفضل المجهودات المبذولة من طرف الدولة انفتح على السياحة الدولية لكنه لم يحقق بعد الإشعاع المرجو منه كتراث عالمي. لقد برز جليا كيف يمكن أن تكون بعض الخصائص الثقافية المميزة لمنطقة من مناطق المغرب، تراثا مشتركا مع العديد من الدول بشكل يحول المحلي local/communautaire إلى فوق-وطني transnational، ومثال ذلك تراث الطباخة المتوسطية الذي يميز إقليم شفشاون والذي سجل مع شيلينطو بإيطاليا وكورون باليونان وصوريا بإسبانيا، تراثا لاماديا للإنسانية، قبل أن تنضم دول متوسطية أخرى إلى قائمة هذا التراث المشترك. وتراث الصقارة الذي انضم به المغرب إلى 12 دولة كتراث عالمي مشترك. وهو ما يعني أن المكون التراثي اللامادي بمكن أن ينقل الخصوصية المحلية إلى مشترك إنساني وأن يفتح جسورا للتواصل الإنساني المستدام كتعبير عن حوار حقيقي للثقافات.

إن هذه الشعب المكونة للسياحة الثقافية بالإضافة إلى أخرى لا يتسع المجال لتفصيلها من قبيل السياحة الفلاحية والسياحة الإيكولوجية والسياحة القروية، تفتح آفاق رحبة أمام موارد التنمية المحلية، كما تغني سوق الشغل أمام مهن الثقافة والسياحة على حد سواء، فمحافظو المتاحف والمواقع التاريخية والأثرية والتقنيون والمهندسون المختصون في التهيئة والترميم ورد الاعتبار، والمنشطون والقائمون على تنظيم الأحداث الثقافية، ومهندسو الصوتيات والإنارة والديكور …إلخ، ووكالات السياحة، والمكاتب المحلية والجهوية للمبادرة السياحية والمرشدون، ومهنيو الفندقة، ومتعهدو الحفلات و وكالات الأسفار…إلخ، والقائمة طويلة يصعب حصرها، كلهم معنيون بهذه الموارد التي مازالت في العديد من مناطق المغرب، في حالة كمون وضمور تنتظر المبادرات الفاعلة لاستثمارها خير استثمار. ولعل هذا الاستثمار الأمثل يبدأ بوضع الضمانات التشريعية اللازمة التي تحد من التأثير السلبي للنشاط السياحي الثقافي على المحيط البيئي والثقافي، إذ يكمن صمام أمان الحركة السياحية الثقافية في ضمان استدامتها من خلال محافظتها على الموارد الطبيعية والاجتماعية الثقافية التي تنشأ في كنفها. فهل يمكن قبول استمرار شراء أهم بيوتات مدينتي مراكش وفاس المسجلتين تراثا عالميا من طرف أجانب وتحويلها إلى دور ضيافة فاخرة، غالبا ما تكسر في إطار ظاهرة البرجوزة la gentrification، ضوابط الثقافة المحلية وتصيب نسقها باختلالات بنيوية؟

إن تحويل المورد الثقافي إلى مورد اقتصادي عن طريق السياحة الثقافية يقتضي حكامة إصلاحية نسقية لخمس حلقات بنيوية مترابطة تنهض بالمنتوج الثقافي السياحي وهي: بنية الإقامة السياحية، بنية الجاذبية السياحية، بنية الموارد السياحية، البنيات التحتية والتجهيزات الحضرية، بنية الخدمات التكميلية ومنها الخدمات الأمنية، وكلها حلقات لا يمكن إصلاحها إلا في إطار من التدبير الالتقائي المنسجم بين مختلف التدخلات وفق خطة وطنية تشرف على قيادتها وزارة الثقافة باعتبارها المسؤولة عن تهيئة مضمون العرض السياحي الثقافي. وهي الخطة التي يجب أن تشرك بالإضافة للمتدخلين العموميين، هيئات المجتمع المدني والهيئات غير الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص وهيئات الرعاية الثقافية، واضعة كهدف استراتيجي العمل على استدامة التأثير الاقتصادي الإيجابي على الساكنة باستدماجها في كل الأنشطة والمشاريع، والنأي عن تحويل السياحة الثقافة إلى حقل تجاري تفتح فيه الأبواب للمستثمرين الأقوياء الذين يبحثون فقط عن مشاريع ربحية لا تراعي الأثار الجانبية على النسيج الاجتماعي والثقافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة + 19 =

زر الذهاب إلى الأعلى