أخبار الدار

البيجيدي.. من مثالية المقدس إلى واقعية المدنس

الدار/ رشيد عفيف

رغم طابع المبالغة التي قد تتخذه أحيانا المتابعة الإعلامية للقضايا الأخلاقية المتعلقة بمناضلي حزب العدالة والتنمية إلا أن هذه الظاهرة تعكس في جانب مهم مستوى التحول الكبير الذي يعيشه الحزب الإسلامي الأول على مستوى قناعاته وتوجهاته واختياراته منذ أن قبل الاندماج في اللعبة السياسية بل والمشاركة في تدبير وقيادة الحكومة.

هذا التحول يلمس أساسا النواة الصلبة للحزب الذي لطالما قدم نفسه كهيئة سياسية بمرجعية إسلامية ورداء ديني بكل ما تنطوي عليه هذه النعوت من قيم ومبادئ والتزامات تدخل في نطاق المقدس. لقد أصبح الحزب أكثر وعيا منذ أن ارتطم بمسؤولية التدبير أن اللعبة السياسية ليست مجرد نوايا معلنة وقيم أخلاقية وإنما أيضا مصالح وميولات شخصية لمناضلين ينتخبون باسم الحزب لكن قد لا يحترمون بالضرورة مرجعيته المعلنة/

هذا التعارض الواقعي بين الإيديولوجية والممارسة كان أكبر محك يعيشه الحزب خلال السنتين المنصرمتين. وقد شكلت لحظة الجدل الذي أثارته البرلمانية آمنة ماء العينين في يناير الماضي أكبر نموذج لذلك. فالمناضلة التي ظهرت في صور شخصية بباريس سافرة من دون حجاب حاولت في البداية السير قدما في نظرية الإنكار لكنها سرعان ما تراجعت واستسلمت للأمر الواقع. لكن الأمر لم يقف عند حد الاعتراف بل أثارت هذه الحادثة نقاشا داخل الحزب عن موقفه من قضية الحجاب.

وأدى هذا النقاش إلى انقسام في صفوف الحزب بين من اعتبر الأمر قضية حرية شخصية وبين من دافع عن ضرورة الانسجام بين الخطاب والواقع في سلوكات مناضلي الحزب. وبغض النظر عن هذا الخلاف فإن أهم ما أفرزته هذه القضية هو ذلك التصريح "التقدمي" غير المسبوق للأمين العام السابق للحزب عبد الإله بنكيران والذي قال فيه مخاطبا آمنة ماء العينين "“كان يجب أن تردي عليهم بالقول، وماذا بعد؟ إن كنت قد اخترت أن أنزع الحجاب في الخارج، أو أرتديه هنا فهذا شأني، وإذا خرقت القانون يجب أن أحاكم، وإذا خالفت شيئًا من تعاقدي مع الحزب، يجب أن أسأل، وما دام ارتداء الحجاب أو خلعه لا يدخل ضمن هذا كله، فتلك مسألة شخصية”.

ما يؤشر على إمكانات التطور والتحول في خطابات وممارسات الحزب هو أنه  لم يكن من السهل أبدا  تصور داعية من دعاة الأمس مثل عبد الإله بنكيران يدافع عن الحياة الشخصية للمناضلين بتعارض مع مرجعية الحزب الدينية. هذا يعني أن الحزب الإسلامي وبعد أن عركته التجربة البرلمانية ثم الحكومية بدأ تدريجيا يخرج من مثالية المقدس إلى واقعية المدنس. عنوان هذا الانتقال الذي يعيشه الحزب هو مقولة سعد الدين العثماني "لسنا ملائكة" تعليقا على قصة آمنة ماء العينين. ورغم أن رئيس الحكومة حاول حينها التأكيد على أن الحزب لن يفرط في مبادئه إلا أن هذا المصطلح أصبح فضفاضا اليوم في نظر قيادة الحزب وفي أعين مناضليه.

وينبئ توالي القضايا الأخلاقية الشخصية لمناضلي الحزب من حجاب ماء العينين إلى خطبة يتيم إلى غش قشيبل أن الحزب فعلا تطور كثيرا نحو الاختلاط أكثر باختبارات الحياة اليومية والخروج من دائرة القداسة المصطنعة. هذا يعني أنه من المستغرب أن يستغرب مناضلو الحزب وقياداته من اهتمام الرأي العام بمثل هذه القضايا التي يتورطون فيها.

ومن الغريب استمرارهم في توجيه الاتهامات بالتعرض لحملة منظمة علما أن هذا الاهتمام الإعلامي يجد مبرره الأقوى في كون الحزب ليس كباقي الأحزاب الأخرى فهو يدعي التزامه بمرجعية دينية ومنظومة أخلاقية ومن الطبيعي أن تتركز عليه الأنظار إذا وتأخذ هفوات أعضائه ومناضليه كل هذه المساحة من الأهمية.

إن أعمق تطور يمكن أن يحققه حزب العدالة والتنمية إذا نتيجة لهذه الاختبارات والتجارب البشرية التي يمر بها بعض أعضائه هو  تلك القطيعة التي تأخرت كثيرا مع ادعاء احتكار المرجعية الدينية، في حقل سياسي يعج بالأحزاب التي تعتز بهذه المرجعية وتضعها على رأس ثوابتها.

ويبدو أن هذه القطيعة وإن كانت مرشحة للمزيد من التأخر فإنها لا شك حاصلة خصوصا مع التجدد الذي من المحتمل أن تعرفه تركيبة الحزب البشرية. ومن الغباء أن يستمر الحزب الذي تحالف مع كل التيارات من أجل تشكيل الحكومة في المراهنة على خطابه الإيديولوجي في وقت تتآكل فيه شعبيته ورصيده الأخلاقي شيئا فشيئا بسبب إكراهات التدبير وهفوات المناضلين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى