هل دخل هامش المناورة الإسرائيلية مرحلة العدّ العكسي؟
الدار/ افتتاحية
يتآكل الدعم الدولي الذي تحظى به الحرب الإسرائيلية على غزة يوما بعد يوم، ويتراجع التأييد في الأوساط السياسية والنخب الحاكمة في القوى الغربية الرئيسية. هناك انتقادات واسعة متنامية في الولايات المتحدة الأمريكية للطريقة التي يدير بها الرئيس جو بايدن مواقف واشنطن تجاه هذه الحرب. وفي بعض الدول الأوربية مثل فرنسا وبريطانيا تتعالى الأصوات المعارضة للدعم الأعمى الذي تقدمه هذه الدول لإسرائيل. على المستوى الشعبي فقدت إسرائيل كلّ تعاطف مع عمليتها العسكرية بعد أن كانت قد راهنت في أعقاب عملية طوفان الأقصى على دغدغة مشاعر المواطنين الغربيين بتقمص دور ضحية العمليات التي تعتبرها إرهابية.
الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة والأعداد الهائلة من الضحايا الفلسطينيين المدنيين الذين يسقطون كل يوم في مجازر لا تنتهي تمثل جانبا من الهزيمة الإسرائيلية في هذه الحرب التي لم تحقق إلى اليوم أيّ هدف استراتيجي من أهدافها. لم تستطع وقف الصواريخ التي تطلقها حركات المقاومة ولا اغتيال قيادات من الصف الأول ولا تحرير الأسرى الذين تحتجزهم حماس. كل ما تحقّق إلى حدود الساعة هو عمليات قتل جماعي ومجازر بالجملة تلطخ سمعة إسرائيل وتعمق الخدوش في صورتها الدولية. بعبارة أخرى ما خسرته إسرائيل من هذه العمليات العسكرية العدوانية أكثر مما جنته، على الرغم من فداحة الخسائر البشرية المسجلة.
المعركة الإعلامية أكبر دليل على هذه الهزيمة. الرواية الإسرائيلية التي كانت سائدة في البداية في وسائل الإعلام الدولية والغربية على الخصوص تراجعت كثيرا أمام هول وفداحة الردّ الإسرائيلي الذي تجاوز كل التوقعات. ولعلّ الوعي الجديد المتنامي في الكثير من الدول الغربية لا سيّما في أوساط الشباب والنشطاء حول حقيقة الصراع الدائر في فلسطين والشرق الأوسط يؤكد أن إسرائيل تُراكم كل يوم ترتكب فيه جرائم جديدة هزائم أخرى ستظهر نتائجها على المدى البعيد. لقد نجح التضليل الإعلامي الغربي في بناء تصور خاطئ عن حقيقة هذا الصراع على مدى عقود من الزمن، وها هي ذي الحماقة الإسرائيلية تهدم ما بنته في أقل من شهر.
كانت غالبية المواطنين الغربيين تعتقد أن إسرائيل دولة تعاني باستمرار من تسلط جيرانها العرب، لكنهم اكتشفوا في ظل هذا العدوان الغاشم أن إسرائيل دولة احتلال ترفض منح الشعب الفلسطيني حقوقه الشرعية ولا تتردد في ارتكاب جرائم حرب فظيعة لإسكاته وقمع حريته. صحيح أن إسرائيل لا تعير في الوقت الراهن أيّ اهتمام للانتقادات التي توجه إليها سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، لكن هذا التجاهل في حد ذاته يمثل خطرا آخر على مستقبل إسرائيل واستمرار غطرستها في المنطقة. من الصعب في المستقبل أن تقنع إسرائيل حلفاءها والمتعاطفين معها بحقها في الدفاع عن نفسها وضمان أمنها بعد أن تحوّلت العملية الدفاعية المزعومة إلى حرب تطهير عرقي مكتملة الأركان في قطاع غزة.
ومع استمرار هذا العدوان تفقد إسرائيل كل يوم “شرعية” حربها المزعومة وتعمق الفجوة بينها وبين الدول الداعمة لها. الخسارة المعنوية الهائلة التي تحصدها إسرائيل في هذه الحرب تتزايد كل يوم ومن المؤكد أنها ستنعكس في أقرب الآجال على تماسك الجبهة الداخلية، وقد يكون أول ضحاياها حكومة الحرب التي يرأسها بنيامين نتنياهو. وهنا تصبح المزاعم التي يطلقها وزراء الحكومة الإسرائيلية عن استعدادهم للدخول في حرب طويلة قد تستمر عاما كاملا مجرد دعايات لتجاوز الفشل الذريع الذي تحصده العملية البرية التي تم إطلاقها. لم يعد أمام إسرائيل إذاً فسحة زمنية كبيرة لتحقيق أهدافها ولعلّ الهدنة التي تتداولها الأوساط الدبلوماسية تمثل إرهاصا من إرهاصات تراجع هوامش المناورة أمامها.