كيف ستعمّق دعوى المحكمة الجنائية هزيمة إسرائيل الأخلاقية؟
الدار/ تحليل
من المؤكد أن نظر المحكمة الجنائية الدولية في الدعوى المرفوعة ضد جرائم إسرائيل في قطاع غزة لن تؤثر تأثيرا مباشرا في سير الأحداث ولن تجعل تل أبيب ترضخ رضوخا كاملا لإرادة السلام ووقف آلة الحرب. إسرائيل لا تعير أي اعتبار منذ زمن طويل إلى ما تصدره هذه المحكمة من إدانات وقرارات ضدها في محطات عدوان سابقة. لكن هذا التجاهل يقابله أيضا توجس ضمني من تأثير هذه المحاكمة في سمعة إسرائيل وصورتها على الصعيد الدولي. هذه السمعة التي لطختها الجرائم المقترفة منذ 7 أكتوبر ضد المدنيين والأطفال والنساء وضد المنشآت الإنسانية كالمستشفيات والمدارس والمساجد وغيرها.
ولعلّ أكبر هزيمة تلقتها إسرائيل وحكومة بنيامين نتنياهو على الخصوص هي هذه الهزيمة الأخلاقية. وهي بالمناسبة خسارة فادحة في رصيد إسرائيل لا سيما لدى الرأي العام الدولي والغربي. لقد كانت الحكومات المتعاقبة تستدر تعاطف الإنسان الغربي بتوظيف رواية المظلومية ضد النازية ثم المظلومية الناجمة عن مواجهة الجيوش العربية وما يسمى “الإرهاب” الفلسطيني. لكن هذه الرواية تآكلت كثيرا في أثناء العدوان على قطاع غزة بعد أن فهم المواطن الغربي أن القضية الفلسطينية ليست قضية صراع متوازن أو تحالف عربي ضد إسرائيل بل هي قضية احتلال وراء مستعمِر هو إسرائيل وضحيته مستعمَر هو فلسطين. بعبارة أخرى لقد أدى العدوان نتائج عكسية وبدلا من أن تستثمر إسرائيل التعاطف الغربي في أعقاب عملية طوفان الأقصى لصالحها تورطت في عبء إنساني وتاريخي سيطاردها سنوات طويلة.
والأكثر من هذا هو أن ما حققته إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة على مستوى التقدم في تصفية القضية الفلسطينية ووضعها في ذيل قائمة انشغالات المنتظم الدولي نسفته تماما بسبب هذه الحرب الشعواء التي لم تميز بين مقاتلي الفصائل الفلسطينية المقاومة وبين المدنيين العزّل والأبرياء. إيقاظ القضية الفلسطينية من غيبوبتها القسرية كان إذاً هو النتيجة المباشرة لهذا الخطأ الذي اقترفته حكومة بنيامين نتنياهو. وعرض جرائم إسرائيل على أنظار المحكمة الجنائية الدولية خطوة بالغة الأهمية في إلحاق هذه الهزيمة الأخلاقية بإسرائيل. وإصرار النشطاء السياسيين والحقوقيين على الشروع فيها مناورة في محلها وتوقيتها المناسب.
من هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن تداعيات هذه الحرب على المدى المتوسط والطويل ستكون ربّما أكثر عمقا وتأثيرا في مسار هذه القضية مقارنة بتداعياتها الظرفية أو تلك التي سنراها على المدى القريب. صحيح أن الخسائر في الأرواح فادحة والدمار الذي لحق بنيات قطاع غزة وعمرانها خرافي وغير مسبوق، ويذكّر بالدمار الذي لحق المدن الألمانية في نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن الخراب المقابل على مستوى الرصيد الإنساني والأخلاقي الذي حصدته إسرائيل لا يقل فداحة أيضا. من غير المستبعد أبدا أن تزداد عزلة إسرائيل وتخسر الكثير من مكانتها وتأثيرها داخل بلدان الحلفاء والأصدقاء، ولعلّ أكبر خسارة حصدتها إسرائيل في هذا الميدان هي فشل مشروع التطبيع الواسع مع محيطها الإقليمي العربي.
توقف المفاوضات مع المملكة العربية السعودية حول مشروع تطبيع العلاقات يمثل ضربة كبيرة للجهود الأميركية التي بُذلت في هذا المجال. وإذا ما انهزمت إسرائيل في مواجهتها مع حركة حماس وفشلت في تحقيق الأهداف التي أعلنتها في بداية الحرب وعلى رأسها اجتثاث الحركة من القطاع والقضاء على قدراتها العسكرية ونفوذها السياسي. والظاهر اليوم أن التطورات الميدانية تؤكد بالملموس أن تحقيق النصر الساحق والبيّن على حماس أضحى أمرا أشبه بالمستحيل بعد أن أثبتت المقاومة ثباتا أسطوريا وورّطت ألوية نخبة الجيش الإسرائيلي في مستنقع حقيقي قد لا يجد صعوبة في الخروج منها.