فن وثقافة

قيمة “الورق الأصفر” تنعش معرض الكتاب المستعمل بالدار البيضاء

داخل عالم "ساحة السراغنة" العريقة والأثيرة في ذاكرة سكان مدينة الدار البيضاء، تختلط موجات الزحام مع دفء الكتب فتصبغ الأجواء بمناخ مختلف عما خارج هذا الفضاء. فالمكان الذي يضج عادة بآلاف المتسوقين ومرتادي المقاهي، يكتسب رونقه على مدى شهر كامل بترويج كتب، قدر لها أن تنبعث من مخازن الكتبيين وتطل من جديد على عشاق "الورق الأصفر"، ضمن فعاليات الدورة 12 للمعرض الوطني للكتاب المستعمل.

كل شيء بمعرض "الساحة" -كما يحلو للبيضاويين تسميته- هو حكاية بذاته، وله قيمة خاصة عند محبي القراءة، فرائحة الورق العتيق وعبق أيدي قراء مرت من فوق صفحات كتب قديمة مشحونة بتاريخ أجيال متعاقبة تملأ المكان، ورونق خربشات تعلو الصفحات الأولى للكتب وملاحظات دونت داخلها، وإهداءات بخط أيدي المؤلفين، تذكر فيها أسماء الأصدقاء والطلبة.

كتب نفيسة ونادرة تنفي عن نفسها شيخوخة الشكل بـ''فتوة'' المتن المشبعة بعبق الفكر والثقافة، طبعات غدت نادرة لافتقاد نسخها، ودور نشر لم تعد موجودة لكن كتبها تحافظ على اسمها، خرجت إلى فضاء هذا المعرض السنوي تنافس نسخ الكتاب الجديد.

وتتزين أروقة المعرض بكتب قديمة، منها كتاب طبع عام 1946 عن المجاهد عبد الكريم الخطابي يتضمن حكايات الإسبان عن شخصيته وشهامته، وكتاب ''ذكريات المغرب'' المطبوع عام 1917 ويحكي عن الحضارة المعمارية والهندسة المتطورة، وكتاب عن الحماية الفرنسية طبع عام 1939 يتحدث عن تنظيم الحماية الفرنسية بالمغرب، وكتاب "الحسن الثاني: التحدي" الذي طبع عام 1976، وكتاب "أبعاد ملك الحسن الثاني" (38 سنة من الحكم ومن العلاقات المغربية الفرنسية، حقائق جديدة في قضية أوفقير وبن بركة، سيرة متميزة للملك الحسن الثاني).

يجول عشاق الحرف بين عناوين الكتب، فتأخذ ألبابهم بحقولها المعرفية المتنوعة، وعددها الذي تجاوز مئتي ألف عنوان بلغات عالمية شتى، وأثمنتها الزهيدة التي تتراوح بين 3 و10 دراهم، بحسب ما أكده يوسف بورة رئيس ''الجمعية البيضاوية للكتبيين'' المنظمة لهذا الحدث السنوي، بتعاون مع مجموعة ممن يعنيهم الشأن الثقافي ورمزية الساحة العتيقة بالمنطقة.

تاريخ وتراث
في هذه الساحة المكتظة والمفعمة بروائح التراث وعبق التاريخ، يستقطب سوق الكتب مثقفين من نوع خاص، قال عنهم يوسف والبسمة تعمر وجهه "إنهم مجموعة مميزة من الناس، تشبه الكتب القديمة، يبحثون عن نسخ نادرة من دواوين وروايات ومجموعات قصصية في طبعاتها الأولى، تكاد تكون انمحت من ذاكرة النشر منذ زمن".

يتوقف يوسف عن شرب قهوته، ويدخل إلى خيمة بيضاء تتوزع بها الكتب بطريقة غير منظمة، بعضها على رفوف خشبية بالية، وكثير منها على الأرض وفي صناديق من الكرتون.

يبدأ الحديث بكثير من الشغف عن كتبه التي يعيش معها منذ أزيد من ثلاثين عاما. وبالنسبة له، فإن الفرحة التي يشعر بها قارئ يعثر على كتاب نفيس ونادر، لا تقدر بمال.

لا يقتنع يوسف اليوم بالشهرة التي أضحى يتمتع بها معرض الكتاب المستعمل، فهو -بحسب قوله- لا يحتضن إلا سبعين كتبيا يمثلون حوالي 10% من الكتبيين في المغرب.

يحكي بحماس -وهو يتابع باهتمام الواقفين أمام الكتب ما بين مشتر وبائع وباحث عن التراث القديم- عن حلمه في فضاء يجمع شتات الكتبيين، ويتردد عليه محبو الكتب طوال العام، بغية إعطاء الاعتبار للكتبيين والاحتفاء بالكتاب القديم كآلية مهمة للتثقيف والتوعية والمعرفة.

بين ركام من الكتب المغبرة، يقف عشرات الزوار لساعات، كل منهم يبحث عن كنزه الخاص. بعضهم يسأل لسبر أغوار ومجاهل بعض الكتب، وغيرهم يقلب صفحاتها الصفراء الباهتة برفق وروية، وآخرون يبحرون مع عناوين قد يصاب المرء بالدوار إن حاول أن يجد بينها رابطا.

فمن "صحيح مسلم" إلى "الحياة الزوجية السعيدة"، مرورا بدواوين وروايات ومعاجم ومؤلفات بلغات عديدة، منها العبرية والفارسية وحتى الصينية والروسية.

عشاق من نوع خاص
أمام هذا الزخم المبهر، قالت طالبة الماجستير إيمان الزاهي إنها تكرر الزيارات للمعرض، فهي تأتي من أجل بضعة كتب لكنها تحمل ما تيسر مما تجده لتعود في اليوم التالي لتكمل مهمتها.

كانت إيمان مشدودة بعالم الكتب الشاسع والمبهر بالألوان والصور والعناوين التي يختزنها هذا المعرض البسيط في شكله، فظلت لساعات تتنقل بين خيمات العرض متوقفة بين الحين والآخر لتفتح كتابا مهما، فتشرح لزميلتها ما فيه من كنوز وبيانات تستفيد منها بأبحاثها وتحصيلها.

ولا تخفي إيمان شغفها بجمع الكتب القديمة وعشقها لملمس أوراقها ورائحتها ولونها الباهت، وتقول إن سعادتها لا توصف حين تحصل على كتاب نفيس يحمل بين طياته عوامل الزمن، وبخاصة حين تمتلئ هوامش المتون منها بالتعليقات والإحالات.

ورغم امتلاك إيمان مكتبة إلكترونية، فإنها تحرص على زيارة معرض الكتاب باستمرار منذ انطلاقه قبل عشر سنوات، وتؤكد أن احتفاظها بمكتبة ورقية له إحساس مختلف، ولرائحة ورق الكتب خاصية مختلفة، ففي الكتب كما تقول "روح ودفء" تخلو منه النسخ الإلكترونية.

أما رجل التعليم المتقاعد محمد أبو بكر فيجول في أروقة المعرض بين الفينة والأخرى، لا يبحث عن كتب بعينها بل ينقب عن الكتب القديمة النادرة والنفيسة أينما وجدت، ولا تهمه جودة غلافها أولون الورق وتقادمه، بل ما تحمله من قيمة فكرية نفيسة.

فهذه الكتب بالنسبة له هي كل ما يشكل حياته، حتى أصبحت لديه اليوم مكتبة خاصة به كوَّنها منذ عشرين عاما، تضم ما يزيد على ألف كتاب، من بينها نسخ لكتب نادرة تقدر بآلاف الدولارات.

هؤلاء الرواد من المثقفين والقراء الواعين يمثلون المكسب الحقيقي للمعرض، لأن رهان باعة الكتب مختلف عن المكتبات، فكلما زاد الكتاب قدما زاد سعرا.

وبزهو يحكي الكتبي محمد شكيري عن عشاق القديم والتراثي، وهو منهمك في ترتيب الكتب التي يعمل على بيعها منذ أزيد من أربعين عاما، يتنقل بزبائنه بين المراجع والمصادر ممررا ريش نفاضة الغبار برفق على ظهور المجلدات. يتفحص الواقف أمامه، وفي حدس عجيب يعرف ما يحتاجه هذا وذاك.

كانت له طريقته الخاصة في التعامل مع زبائنه حتى إنه يستمتع ويمتع بالتحدث معهم، ولا ينفك شكيري -بائع الكتب البسيط المظهر والخبير في فنون الكتب وتواريخ الطباعة- يقلب موضوعات متنوعة في حوارات مع زبائنه حول قيمة الكتب التي تضمها خيمته، ويذكرها كأنما يذكر أسماء أفراد عائلته.

ورغم كل هذا الحب الذي يكنه الرجل لكتبه القديمة، قال "إنها تتسرب إلى كشكه من مكتبات مفكرين يجهل ورثتهم أهميتها فيبيعونها"، ويعترف بحسرة ومرارة بأنه غير راض على مردود بيع الكتب المستعملة ماديا، فكل ما يجنيه لا يتعدى بضع دولارات.

ويجمع المهتمون بالشأن الثقافي بالمغرب على أن ظاهرة بيع الكتاب المستعمل تشكل احتفاء بثقافة القرب في تجلياتها البسيطة، وبث حراك ثقافي ومعرفي، وإعادة تدوير المعرفة التراثية والأثر المكتوب وانتقاله بين الأجيال، وهذا يساهم برأيهم في صيانة ذاكرة الكتاب بالمغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى