العفو الملكي.. آلية عريقة تسمو فوق الاعتبارات السياسية لحماية المصلحة الوطنية
الدار/
الجدل المثار حول العفو الملكي وكيفية الاستفادة منه والأحق به مشوب بكثير من السياسة وقليل من المنطق والقانون والتاريخ. والذين علقوا على حالات العفو الأخيرة التي شملت صحافيين أو بعض المعنيين بزراعة القنب الهندي وقعوا للأسف في فخ التوظيف السياسوي لعُرف هو الأعرق من بين الأعراف الراسخة في تاريخ الدولة المغربية. والانشغال ببعص الحيثيات الجانبية حول طبيعة المستفيدين وشروط الاستفادة بعيدا عن الاستنارة بما ينص عليه القانون والدستور، وما اقتضته الأعراف المخزنية منذ قرون طويلة يعد مقاربة مجتزِئة لواقع العفو وأهدافه وغاياته السامية. لذا؛ من الأجدى أن ننظر إلى هذه الممارسة في سياقها الأصيل.
يتعلق الأمر أولاً بصلاحية دستورية يتمتع بها جلالة الملك باعتباره رمز الأمة ورئيس الدولة وضامن استقرارها ووحدتها، وراعي شؤون أبنائها وبناتها دون تمييز أو فرق. هذا يعني أن اتخاذ قرار العفو عن هذا السجين أو ذاك جزء لا يتجزأ من الرؤية الملكية التي تعد أيضاً عماد تدبير الشأن العام، وركيزة المشاريع والبرامج التي تخطّها كافة مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة السجنية. صحيح أن هذه المؤسسة تخضع بدورها للقرارات القضائية لكن الشرعية الملكية تظل بمقتضى الدستور والتاريخ والدين فوق الشرعيات الأخرى التي تسترشد بتوجيهاتها وتعليماتها. والملك هو الأحرص منذ أكثر من ربع قرن على احترام عمل المؤسسات ومنطقها واختصاصاتها.
ثانيا يخضع قرار العفو واختيار المستفيدين لمسطرة مضبوطة تنظر فيها جهات ولجان مختصة قبل عرضها على النظر الملكي. وعندما يقرر جلالته العفو عن سجين معين فإنه يفعل ذلك من باب الرأفة والرحمة أولا، ثم من باب مراعاة المصلحة العامة ومصلحة باقي السجناء غير المعنيين بالعفو أيضا. لا بد أن نشير هنا إلى أن العفو يعد آلية قانونية تسمح للمؤسسة السجنية بتخفيف الاكتظاظ الذي تشهده مختلف السجون، بطريقة تحقق أكثر من غاية واحدة في الوقت نفسه، وتُوازن بين مصلحة السجين ومصلحة المجتمع. كما أن استفادة فئات معينة من السجناء مثل الصحافيين يمثل أيضا جزء من البحث الدائم عن التوازن، وهو همّ كان دائما من أولويات المؤسسة الملكية التي تقع على عاتقها مسؤوليات ضمان الاستقرار، واستمرار السلم الاجتماعي والوئام المدني. بعبارة أوضح عندما يقرر جلالته العفو عن فئة معينة أو حتى سجين محدد فإنه يفعل ذلك وفق رؤية وغاية تنظر أولا وقبل كل شيء إلى تماسك المجتمع على المدى البعيد.
على سبيل المثال عندما منح جلالة الملك العفو للسجناء والفارين والمتابعين على خلفية قضايا زراعة القنب الهندي فقد فعل ذلك في إطار منظور شمولي لا يقتصر على الجانب الجنائي فحسب، بل يهدف إلى فتح صفحة جديدة وإطلاق دينامية واسعة تشمل الجوانب التنموية والاقتصادية والجهوية. وعندما يتعلق الأمر بعفو تحكمه هذه الخلفية فلا مجال هنا للحديث عن طبيعة المستفيدين وشروط الاستفادة. لقد بالغ البعض في سياق هذا النقاش في الحديث عن شرط التقدم بطلب العفو للاستفادة منه. هل هذا يعني أن مئات بل آلاف الأشخاص الذين شملهم العفو الأخير قد تقدموا بهذا الطلب جميعا؟ أكيد أنهم لم يفعلوا ذلك وهذا ما يوضح بالملموس أن هذا النقاش شابه الكثير من المغالطات.
بإمكان جلالة الملك أن يصدر عفوه السامي عندما يرى أن المصلحة الوطنية ومصلحة المجتمع تقتضي ذلك. ومن ثمّ فإن تحميل هذا الموضوع ما لا يحتمله من تأويلات سياسوية منظور غير موفق. كما أن الربط بين العفو كآلية مصالحة وتهدئة شاملة وبين حيثيات بعض الحالات المحددة لا يخلو من مصادرة تحجب عن أصحابها الكثير من دلالات ورسائل هذه الصلاحية الملكية العريقة. ومن المؤكد أن المناسبات الوطنية والدينية القادمة ستشهد أمثلة عملية تؤكد أن الرؤية الملكية لآلية العفو وتفعيلها تتجاوز المنطق السياسوي الضيق الذي يحكم رؤية الأفراد أو بعض الجماعات.