فن وثقافة

في يوبيله الذهبي.. ماذا حقق مهرجان الفنون الشعبية بالمغرب؟

على خشبة قصر البديع التاريخي بمدينة مراكش، تطلق الفنانة الشعبية فاطمة الكحولي أول مواويلها الغنائية المفعمة بحب الحياة والتشبث بقيم الأسرة والمجتمع المبنية على التضامن والتآزر.

بلباسها التقليدي الأصيل، ترقص فاطمة على إيقاعات فرقتها "ميزان هوارة"، وتؤدي قفزاتها الشهيرة التي دأبت عليها منذ كانت شابة في العشرينيات من عمرها.

تغني فاطمة باللغة العربية والأمازيغية، معبرة بعمق عن التنوع الثقافي المغربي بروافده الحضارية المختلفة.

في حديثها، تقول الفنانة المعروفة فنيا باسم "فاطمة الشلحة" التي قضت أكثر من خمسين عاما تتنقل بين المهرجانات العالمية، إن "الفنان الشعبي يؤدي رقصاته وهو في حالة من البهجة والسرور، وينظم خيطا رفيعا بين فنون قوله وتعابيره الجسدية ليقدم لوحة ترضيه وترضي جمهوره".

 

يوبيل ذهبي
تحتضن مدينة مراكش بعمقها الحضاري والتاريخي سنويا المهرجان الوطني للفنون الشعبية، الذي يحتفل هذا العام في دورته الخمسين باليوبيل الذهبي ويقدم نفسه كأعرق مهرجان حظي باهتمام ملكي منذ ولادته وساهم في نجاحاته عدد من رواد الفن الشعبي.

إلى جانب فرقة "ميزان هوارة"، يتوالى على الخشبة في إخراج معدٍّ سلفا، ظهور فرق قادمة من عمق جبال الأطلس والريف وباقي سهول وهضاب المغرب المتنوع.

يقول رئيس الاتحاد الوطني للفنون والشعبية والتراثية علي الشيخي إن "أحواش، وأحيدوس، والركادة، والحصادة، والهواريات، وكناوة، والدقة المراكشية، والروايس وغيرها كثير، تسميات تتكرر لتقترن بقبيلة أو منطقة، لكن ما يجمعها هو تلك المواويل والإيقاعات المعبرة على المعاش اليومي".

ويضيف الشيخي أن "المهرجان موعد سنوي يسعى للحفاظ على قيمة وعراقة الفنون الشعبية وتنوعها، ويبقيها متحفا حيا ومتنقلا مثقلا بالحيوية".

أما الكاتبة المهتمة بالفنون الشعبية ثريا إقبال فترى أن الجانب الروحي و"إتقان الصنايع" حضرا منذ البداية في فنون القول الشعبية، وتطور ليصبح مصاحبا بالتعبير الجسدي، ليحكي عن الحياة اليومية المرتبطة بالزواج ومواسم الزرع والحصاد وغير ذلك.

 

حس إنساني
المتأمل في قسمات وجوه الفنانين وحركاتهم وألبستهم الزاهية وحليهم الفضية والمعدنية المسكوكة بعناية فائقة، وهم يؤدون تلك الرقصات الشعبية بكثير من الإتقان، تغمره تلك المشاعر الجياشة في أبعادها الإنسانية المتناقضة، مجسدة في كل قول وحركة وفي كل إيقاع موسيقي.

لذا يؤكد الباحث الأكاديمي عز الدين كارا في حديثه أن "الحس الإنساني والاجتماعي حاضر في كل قول ورقصة، معبرا عن سلم أو حرب، عن فرح أو استغاثة، عن تفاعل مع جود الطبيعة وفي بعض الأحيان مع قساوتها".

بدوره يشرح المدير الجهوي لوزارة الثقافة عزوز بوجميد بقوله "لا يمكن أن ننكر ذلك الحس الإنساني في أداء الفنانين لرقصاتهم، فهي في نهاية المطاف تعبير عن ذلك الإشباع في إبراز مكونات النفس البشرية من خلال الأهازيج المتميزة بالجمال والفن والإبداع".

 

خطوط ودوائر
يتفاعل المتلقي مع كل صيحة ونداء، ويلاحظ اصطفاف الفنانين في خطوط مستقيمة تتحول إلى دوائر، كما يشهد انتقالات محسوبة الخطى بدقة على الخشبة باقتراب أو تباعد.

وتذهب الكاتبة ثريا إلى القول إن الإيقاعات والإيماءات في الفنون الشعبية انعكاس لما يجري في الكون برمته، فالانتقال من الشكل المستقيم إلى الشكل الدائري تعبير عن الانتقال من حالة الفرقة إلى حالة الانسجام، يجعل الإنسان في تناغم تام مع دورة الزمن والكون.

وتضيف "نحن اليوم بحاجة إلى التوازن بين ما هو مادي وغير مادي، وما هو نفسي وجسدي، والفنون الشعبية تعبر عن مكنوناتنا الفنية والثقافية والحضارية".

 

رواج سياحي
ويساهم المهرجان في خلق رواج فني واقتصادي للمدينة، إذ يقبل عليه الآلاف من السياح والزوار، لكنه متنفس أيضا للفنانين من أجل تجديد اللقاء والتعارف والتواصل بينهم والحديث عن مشاغلهم وهمومهم.

ويبرز رئيس الاتحاد الوطني للفنون الشعبية التراثية أنه "لما توقف المهرجان لمدة أربع سنوات، انعكس ذلك ليس فقط على الحالة المادية للفنان، ولكن أيضا على نفسيته المعنوية".

وأكثر ما يواجه المهرجان من انتقادات، هو محاولة تحويله من مجرد رقصات عفوية يؤديها الفنان بحرية معتمدا على فطرته وسليقته وتفاعل الجمهور معه، إلى أداء فني محترف بإخراج مدروس سلفا.

وتسند مهام إخراج العروض الفنية إلى أحد المخرجين، ليستعمل تقنيات متطورة في الإضاءة والصوت ويقدم عروضا وفق حصص زمنية مدروسة، ليكتمل العرض بخليط من الرقصات والأهازيج.

ويبدي بوجميد تحفظا على ذلك لأن جعل الفنان الشعبي في وضعية مزعجة من خلال محاولة تنظيمه في وصلات مختلفة تؤرقه، فهو بطبيعته حر منطلق، ويحب أن يعبر عن كينونته وفنه بدون قيود، ولكن بضوابط يعيها هو جيدا.

ويخشى بوجميد أن يؤدي استعمال التكنولوجيا إلى تنميط الفن وإبعاده عن البعد الجمالي الذي يميزه.

 

تطوير وتجدد
لكن الكاتب والمفكر المغربي بنسالم حميش يرى في حديثه أن الفن الشعبي بالمملكة جزء من هويته الثقافية والحضارية يجب أن يتطور مع مقتضيات العصر، ويسند ذلك إلى أهل الاختصاص دون أن تمس أصالته بسوء أو ينسلخ من روحه.

ويضرب حميش مثلا بالملحن اليوناني ميكيس ثيوذوراكيس الذي اشتهر في كل أنحاء العالم واستطاع مع رفاقه التخفيف من الحصة الزمنية التي تستغرقها كل رقصة أو غناء، ولكن بشكل جميل وبالأخص في أغاني الجزر المعروفة وعلى رأسها جزيرة كريتيس.

تنهي الفرق عرضها المميز وتجتمع في لوحة أخيرة تظهر غنى الموروث الثقافي، بينما تقول فاطمة إنها سعيدة بلقاء جمهورها، وهمها الوحيد هو أن تورّث ما تعلمته منذ ريعان شبابها لجيل قادم يحمل المشعل من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 − 9 =

زر الذهاب إلى الأعلى