بعد أن ضاقت ذرعا بالتعليقات المعادية للنساء التي تصدر عن رؤساء تحرير الصحف التي كانت تكتب فيها، قررت إيبارتين أوكلار المرأة المثقفة تأسيس صحيفة "المواطنة" عام 1881.
وتقول الكاتبة لورا ماي جافريو -بمقال نشرته مجلة "سلايت" الفرنسية- إن هذه المرأة حققت نجاحا بالمجال الصحفي بجرأتها التي يعرفها عنها الجميع، وجسدت الغضب الصامت الذي كانت تشعر به النساء في تلك المرحلة.
وقالت إيبارتين -في خطاب لها خلال مؤتمر العمال الاشتراكيين بمارسيليا عام 1879 إبان نضالها للحصول على حق المرأة في المشاركة بالانتخابات- "إن النساء بحاجة للوقوف بوجه الذين يطالبون بالمساواة في المستقبل، ولكنهم يعرقلونها الآن ويقفون ضد ذكاء المرأة وأفكارها ودورها في مجتمعات المستقبل".
وتابعت "يا نساء فرنسا، أقول لكُنّ من هذا المنبر، إن الذين ينكرون حقكن بالمساواة الآن، سوف ينكرون هذا الحق في المستقبل، لذلك يجب علينا الاعتماد على أنفسنا، وعدم التخلي عن مطالبنا. نحن منذ قرون ضحايا النوايا السيئة، ولطالما عملنا لأجل الصالح العام ونسينا صالحنا الشخصي".
المطالبة بالحقوق النسوية الكاملة
وكانت إيبارتين واحدة من أوائل الناشطات، وحاضرة باستمرار بملتقيات النساء الصحفيات، وستبقى دائما واحدة من أبرز المطالبات بالحقوق النسوية الكاملة، وقد تحولت بسرعة إلى زعيمة النساء المطالبات بحقهن بالتصويت في الانتخابات، كما أنها تعد مؤسسة أول صحيفة تعبر عن الآراء النسوية.
وفرضت إيبارتين نفسها اسما رائدا في عالم الصحافة، بعد أن فهمت أنه "ما دامت النساء يسمحن للرجال بالانفراد بتقديم روايتهم للعالم، فالمجتمع سيبقى دائما خاضعا لرؤية هذه الشريحة الغالبة ومصالحها".
وعي هذه الصحفية بقضية المرأة بدأ منذ سنوات الطفولة، حيث إنها تنحدر من عائلة تنتمي لمحيط اجتماعي رفيع، مثل أغلب الناشطات البارزات في تلك الفترة، التي كان فيها اكتساب الثقافة والانخراط بالأنشطة يتطلب وقتا ووسائل غير متاحة لبقية الطبقات الاجتماعية، بحسب الكاتبة.
الوعي السياسي والاستقلال المادي
ولدت إيبارتين عام 1848 في بلدة صغيرة بمقاطعة أليي بفرنسا، وكان والدها فلاحا ثريا، ومن أشرس المدافعين عن الجمهورية، ومعارضا لفكرة الإمبراطورية الثانية. أما أمها فقد تحدت الضوابط الاجتماعية في عصرها.
لذلك، يعتبر الوعي السياسي الذي أظهرته إيبارتين بكل مراحل حياتها، والتزامها بهذه القضايا، نتاجا طبيعيا للتداخل بين قيم الجمهورية والتضامن النسوي.
عام 1869، حصلت إيبارتين على ميراثها من والديها، وأصبحت قادرة على تحقيق استقلالها المالي، وبالتالي قررت السفر إلى باريس. وهناك عاشت بداية في أحد الأديرة، إلا أن الراهبات سرعان ما طردنها معتبرات أنها متحررة أكثر من اللازم.
سنوات في صحيفة "مستقبل النساء"
وبعدها اتجهت إيبارتين للصحافة، بتأثير من الأديب العالمي فيكتور هوغو، الذي كانت تتبادل معه المراسلات منذ سنوات. ومن خلال الصحافة أيضا، بدأت تتعرف إلى التحركات النضالية الذائعة حينها للمطالبة بحق المرأة في التصويت.
كان فيكتور هوغو هو أول من أدخلها إلى فريق التحرير في "مستقبل النساء"، وهي صحيفة سياسية كانت تنشر كل يوم أحد، وكان مديرها ليون ريشي. كما أنها انخرطت أيضا بالنشاط المدني بعد أن التحقت بـ"جمعية حقوق النساء"، التي كان رئيسها الشرفي هو هوغو نفسه، وكان هذان الرجلان -اللذان كانا مؤمنين بالقضية النسوية- أول من منحا الفرصة لهذه المرأة الشابة، التي سرعان ما سعت للخروج من ظلهما وإبراز اسمها.
وعلى مدى عشر سنوات، كانت تكتب مقالات حول القضية التي تدافع عنها، وتوضح شيئا فشيئا أبعاد الفكر النسوي ومبادئه.
وكانت إيبارتين مؤمنة بحق المرأة في التعليم والمساواة الاجتماعية والمساواة بالحقوق أثناء الزواج أو الطلاق، فضلا عن حقها في الاستقلال الاقتصادي، وحقها بالتصويت والترشح للانتخابات. ولكنها واجهت مشكلة أن الصحف العامة وواسعة الانتشار كانت ترفض نشر مقالاتها خوفا من ردود الأفعال، ورغم أنها كانت مثقفة ذات سمعة مرموقة، فإن أي رئيس تحرير ينشر مقالاتها يتلقى وابلا من التعليقات المهينة له والمعادية للنساء.
رسالة "النساء الناخبات"
وجّهت إيبارتين عام 1877 رسالة مفتوحة حول حق التصويت، تحت عنوان "النساء الناخبات"، إلا أن رئيس تحرير الصحيفة التي نشرت مقالها غيرها ليصبح عنوانها "بيان هؤلاء السيدات". وقد كان واضحا حينها أن عنادها في التعبير عن وجهة نظرها حول قضية المرأة في الصحافة، أثار حفيظة كل الصحفيين الرجال وغضبهم في باريس.
وكانت إيبارتين أول من ربط بين تقدم المجتمع وأوضاع المرأة، معتبرة أن النضالات مرتبطة ببعضها. ومن النقاط المثيرة التي طرحتها تقاسم المهام المنزلية، والمساواة داخل المنزل، معتبرة أن تأنيث الأسماء ليس مطلبا أقل أهمية من حق النساء بالوصول لأعلى المناصب.
وبعدها انتقلت إيبارتين من دورها محررة ومديرة صحيفة رأي، إلى مراسلة ميدانية، وخرجت لأول مرة من فرنسا لتلقي نظرة على حقوق المرأة في العالم، وبالتحديد في منطقة المغرب العربي. وكان ذلك بعد سفرها عام 1888 لتستقر بالجزائر برفقة زوجها الذي تم تعيينه هناك قاضي صلح. وأنجزت في تلك السنوات دراسة ميدانية معمقة حول حقوق النساء.
وتوقفت صحيفة "المواطنة" عن النشاط عام 1891، بسبب غياب التمويل. ولكن سارت على خطى إيبارتين العديد من الصحفيات الأخريات، وظهرت الصحف النسوية التي اعتمدت الأسلوب نفسه، ومنها صحيفة "المرأة" و"الشقراء".
وقد توفيت إيبارتين عام 1914، دون أن تشهد نجاح النضالات التي خاضتها من أجل انتزاع حق التصويت، وهو حق لم يتم إقراره للنساء في فرنسا إلا عام 1944.