وثائق سرية فرنسية تكشف خفايا “حرب الرمال”: الجزائر كانت البادئة بالهجوم والخيانة؟
وثائق سرية فرنسية تكشف خفايا “حرب الرمال”: الجزائر كانت البادئة بالهجوم والخيانة؟

الدار/ خاص
بعد أكثر من ستة عقود من اندلاع “حرب الرمال” بين المغرب والجزائر سنة 1963، تكشف وثائق فرنسية رفعت عنها السرية بين عامي 2000 و2023، جانباً مغايراً للرواية الرسمية الجزائرية التي لطالما صوّرت المغرب كطرف معتدٍ. تلك الوثائق، المحفوظة في مراكز أرشيف فرنسية مثل إيكس أون بروفانس ونانت ولا كورنوف، تلقي الضوء على واقع ميداني مختلف، تؤكد فيه أن الجزائر الفتية، بعيد استقلالها، هي من بدأت الهجوم على مواقع مغربية.
تعود جذور الخلاف إلى مرحلة ما بعد استقلال المغرب عام 1956، حيث وعدت فرنسا باحترام وحدة أراضي المملكة بناءً على اتفاقيات سابقة، من بينها معاهدة 1911. بل جرى التفكير حينها في تشكيل لجنة فرنسية-مغربية لإعادة النظر في الحدود الجنوبية. غير أن تعنّت السلطات الفرنسية ورفض السلطان محمد الخامس التفاوض تحت الإملاءات، دفع بباريس إلى رسم “خط 1957” بشكل أحادي، ما أدى إلى ضم مناطق مغربية كأم العشار وحاسي منير وحاسي بيضة إلى الأراضي الجزائرية الخاضعة آنذاك للإدارة الفرنسية.
المفارقة أن هذه المناطق، التي كانت ملاذاً لمقاتلي جبهة التحرير الوطني إبان حرب الاستقلال الجزائرية، تحولت بعد الاستقلال إلى نقاط ارتكاز للجيش الجزائري، في تجاهل للاتفاق الشفهي الذي تم بين الملك الحسن الثاني والرئيس المؤقت لحكومة الجزائر المؤقتة فرحات عباس سنة 1961، والقاضي بالعودة إلى طاولة التفاوض بعد الاستقلال. لكن بمجرد استلام أحمد بن بلة الحكم، تراجع عن تلك التفاهمات واعتبرها لاغية.
تشير الوثائق كذلك إلى محاولات جزائرية لتعديل الخرائط وإظهار تلك المناطق كجزء من أراضيها، كما تكشف عن تحركات عسكرية جزائرية في المناطق الحدودية منذ سنة 1962، وشنها هجمات مباشرة على مواقع مغربية في أكتوبر 1963. والمثير أن الجزائر، رغم استفادتها من الدعم المغربي أثناء حربها ضد الاستعمار، استغلت معرفتها الدقيقة بالأرض لصالح تحركها العسكري.
أكثر من ذلك، تظهر الوثائق أن ضباطاً جزائريين التقوا بمسؤولين إسبان في منطقة المحبس سنة 1962، لتبادل المعلومات بشأن تحركات المغرب. في الوقت ذاته، بقي الإعلام الجزائري متكتماً على حقيقة التوترات الحدودية، فيما كان خطاب بومدين مليئاً بتصريحات تحريضية تحدثت عن “مجازر” مزعومة ضد سكان تيندوف من قبائل الرقيبات.
في تناقض واضح، قال بن بلة سنة 1962 إن الجزائر لا تعترف بالحدود الموروثة عن الاستعمار، ليعود ويعلن تمسكه بها في العام التالي، متجاهلاً الاتفاقيات السابقة. بل إن مسؤولين جزائريين رفيعي المستوى، من بينهم والي سابق ومبعوث دبلوماسي، أقروا صراحة بأن تيندوف منطقة مغربية الأصل.
اندلعت الحرب في 9 أكتوبر 1963، وسط دعم خارجي للجزائر من دول ككوبا ومصر ويوغوسلافيا، إضافة إلى وجود عناصر أجنبية في الميدان من فرنسا وألمانيا. في المقابل، وجد المغرب نفسه في عزلة، حيث أعرب الملك الراحل الحسن الثاني، في حوار مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية، عن ثقته في عدالة السماء أكثر من رهانه على العدالة الدنيوية.
الوثائق تشير أيضاً إلى وقوع تبادل لأسرى، حيث تم تسليم 375 أسيراً جزائرياً مقابل 52 مغربياً، إضافة إلى إسقاط طائرة مروحية مصرية في خضم المعارك. وجرت محاولات وساطة في باماكو وأديس أبابا انتهت بتوقيع وقف إطلاق النار في 4 نوفمبر 1963، لكن التوتر لم يختفِ.
الحرب، التي يُنظر إليها غالباً كمجرد نزاع حدودي، تكشف عن استراتيجية جزائرية أوسع تسعى إلى الحفاظ على إرث الحدود التي رسمها الاستعمار الفرنسي، متدثرة بشعارات الثورة والتحرر. واستُخدم الصراع أيضاً كوسيلة لصرف الأنظار عن التصدعات الداخلية التي عرفتها الجزائر بعيد الاستقلال، خاصة بعد اعتقال شخصيات معارضة بارزة مثل محمد بوضياف وحسين آيت أحمد.
ولم يكن النزاع سوى بداية لمسلسل طويل من التوترات الجيوسياسية، بلغ ذروته في أحداث أمغالا عامي 1975 و1976، ليترسخ بذلك منطق الصراع بدل التعاون بين الجارين الشقيقين. وهكذا، فإن “حرب الرمال” لم تكن فقط اشتباكاً مسلحاً، بل إعلاناً عن تصادم رؤيتين: رؤية مغربية تدافع عن وحدة ترابية تاريخية، وأخرى جزائرية تبحث عن شرعية داخلية عبر توسيع نفوذها الإقليمي تحت غطاء السيادة الثورية.
ما تكشفه الوثائق الفرنسية اليوم لا يعيد فقط كتابة فصول منسية من تاريخ شمال إفريقيا، بل يطرح أسئلة عميقة عن طبيعة العلاقات المغربية-الجزائرية، ويضع الروايات الرسمية تحت مجهر التمحيص التاريخي.