
بقلم / ياسين المصلوحي
تضمن الخطاب الملكي، بمناسبة الذكرى 26 لعيد العرش المجيد، مجموعة من الأفكار والمحاور التي دار حولها الخطاب، إلا أن اللافت للنظر هو حديث جلالة الملك عن مبدأ العدالة المجالية، عند تطرقه للأرقام المشجعة بخصوص تراجع مستوى الفقر وارتفاع مؤشر التنمية البشرية. إلا أنه استدرك، من خلال تعبيره الصريح عن أسفه، بسبب أنه ما تزال هناك بعض المناطق، لاسيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية، وهو ما لا يتماشى مع تصور جلالته لمغرب اليوم، ولا مع جهوده في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية، وتحقيق العدالة المجالية.كما جاء في نص الخطاب السامي، حيث أكد أنه: “لا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين”.
يقصد بالعدالة المجالية تحقيق توزيع متوازن ومنصف للموارد والخدمات والمشاريع التنموية، بين مختلف جهات وأقاليم المملكة، بهدف تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، وضمان تكافؤ الفرص بين المواطنين أينما وجدوا.
تحقيق هذا المبدأ يصطدم بمجموعة من المعيقات، على رأسها الاختلاف بين المناطق والأقاليم من حيث البنية الديمغرافية، والمؤهلات الطبيعية والاقتصادية التي تتوفر عليها كل جهة، وحتى الموقع الجغرافي والخصوصية الإيكولوجية والمناخية، حيث لا يمكن مقارنة موقع ساحلي مع آخر داخلي، أو منطقة فلاحية مع أخرى غير فلاحية. زد على ذلك البنى التحتية، من طرق سيارة، وربط بالسكك الحديدية، ومطارات مدنية أو تجارية، وموانئ، وغيرها من مرافق تميز مدينة على أخرى.
ويبقى تذويب هذه الفوارق، أو على الأقل تقليصها، هدفا كبيرا تسعى الدولة إلى تحقيقه، بغض النظر عن البرامج الحكومية، خصوصا بعد تبني هذه الرؤية في السياسة العامة، التي تعتبر خيارا استراتيجيا للدولة، تتبناه السياسات العمومية الحكومية في برامجها ومشاريعها، وتحاول بلورته على أرض الواقع.
إن النموذج الكلاسيكي لتحقيق التنمية يقوم على استغلال الموارد المتوفرة واستثمارها لتدوير عجلة التطور، إلا أن صاحب الجلالة، خلال خطاب العرش، أشار إلى مقاربة مغايرة، من خلال الدعوة لتبني جيل جديد من برامج التنمية الترابية، من طرف الحكومة، يرتكز على تثمين الخصوصيات المحلية، وتكريس الجهوية المتقدمة، ومبدأ التكامل والتضامن بين المجالات الترابية. كما ينبغي له القيام على توحيد جهود مختلف الفاعلين حول أولويات واضحة، ومشاريع ذات تأثير ملموس، تنعكس مباشرة على المواطن.
من خلال هذه التوجيهات، يمكن القول إن تحقيق العدالة المجالية يتطلب، أولا، تكثيف جهود كل الفاعلين، سواء السياسيين أو المدنيين أو المستثمرين الخواص أو المسؤولين الإداريين، ويعطي الأولوية لتثمين واستغلال الخصوصيات التي تتوفر عليها كل جهة، دون نسيان مبدأ التكامل والتضامن بين المناطق، لتحقيق نوع من التوازن بين المناطق الفقيرة، التي لا تتوفر على موارد، والمناطق المقلعة اقتصاديا أو صناعيا أو سياحيا.
يُعتبر تحقيق العدالة المجالية تحديا تواجهه حتى أقوى الدول المتقدمة، بسبب الاختلاف الحاصل بين مدن المحور أو المركز، مقارنة مع مدن الهوامش، وبالتالي فلا يمكن أن يشكل المغرب استثناء، وهو الدولة التي لازالت تتلمس طريقها في مسار التنمية والتطور. لكن النموذج المغربي يمكنه تقليص هذه الفوارق، على الأقل، من خلال توزيع عادل للمشاريع والبرامج التنموية، بل وإعطاء الأولوية للمناطق التي تعاني التهميش، أو ما يطلق عليه “المغرب غير النافع”، الذي أفضل تسميته “المغرب العميق”، عوض “المغرب غير النافع”، لأنه ليس هناك أي متر مربع من تراب المغرب لا يحقق نفعا. يبقى فقط ضرورة التوفر على إرادة سياسية حقيقية للإقلاع التنموي، ووضع الحسابات السياسية جانبا، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ياسين المصلوحي
كاتب مقالات رأي