الخطاب السياسي في المغرب : من الوطنية إلى الشعبوية

بقلم: ياسين المصلوحي
يعتبر الخطاب السياسي الرائج في أي مجتمع مرآة يعكس مستوى المجتمع، ويعطي لمحة عن التقدم والوعي، وهامش الديمقراطية والحرية، ومقياسًا لجودة النخب السياسية الفاعلة فيه. حيث يشكل الخطاب السياسي عصارة الفكر المتفاعل داخل أوساط المجتمع على اعتبار أن السياسة تمس جميع مناحي الحياة، وبالتالي فإن الخطاب المرتبط بها يعطي صورة إجمالية عن الوضع العام داخل المجتمع والنخبة السياسية على وجه التحديد.
تميز الخطاب السياسي المغربي بالتغير والتباين حسب المراحل الزمنية والأحداث التي تؤثر فيه وتساهم في تشكيله. فالخطاب السياسي السائد في عهد الحماية، مثلاً، الذي يدور حول فكرة رئيسية واحدة هي مقاومة المستعمر وتوحيد كل الجهود لتحرير البلاد ودعم السلطان الذي يمثل الشرعية والمشروعية الوحيدة التي يتفق عليها المواطنون على اختلاف أيديولوجيات وأفكار القوى الحية آنذاك – رغم أن تلك الفترة لم تكن تعرف تعددًا حزبيًا أو سياسيًا – يختلف تمامًا عن الخطاب السياسي الذي تلى تلك المرحلة بعد استقلال المغرب وبروز فعاليات سياسية جديدة وُلدت من رحم النواة السياسية الأصلية واختلفت معها. حيث انتقل الخطاب السياسي إلى خطاب جماهيري يناقش مؤسسات الدولة وطرق تسييرها، ومن له الحق في الحكم، بالموازاة مع الخطاب السياسي الرسمي من المؤسسة الملكية الذي وضع بين عينيه استكمال الاستقلال، خصوصًا في المناطق الجنوبية التي كانت لا تزال تحت وطأة الاستعمار الإسباني. هذا الاختلاف في أولويات أفكار الخطاب السياسي أدى غير مرة إلى اصطدام فكري، نتجت عنه اصطدامات مادية جماهيرية بين القوى السياسية التي تبنت أولوية المشاركة في الحكم إلى حد المطالبة بالانفراد به، وبين القوات العمومية التي تسهر على حفظ النظام العام. أسفرت عن جمود سياسي وسبات مؤسساتي دام لسنوات خلال عقود من الزمن.
منذ فترة الحماية إلى فترة نهاية التسعينات وبداية الألفينات، تميز الخطاب السياسي بالرقي والجودة والأناقة، رغم اختلاف الأفكار وتباين المواقف سواء بين الزعماء السياسيين فيما بينهم، خصوصًا بعد نهج التعددية الحزبية وتفريخ الأحزاب السياسية. إلا أن ذلك لم يؤثر في جودة الخطاب الرائج أو بين هؤلاء الزعماء والدولة، الذي عرف شدًا وجذبًا شديدين. بغض النظر عن نتائجه، إلا أنه كان يوظف خطابًا سياسيًا يمتاز بوعي ومحتوى هادف يدافع من خلاله كل جانب عن طرحه. أثر ذلك في تحسين مستوى إدراك وتحليل وقناعات الشعب.
لكن ومع بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، تميع الخطاب السياسي المنتج من الأحزاب السياسية خصوصًا، وأصبح يتبنى الشعبوية كمرجعية له، حتى اقترب من “فن الحلقة”. وجنحت الشخصيات السياسية عن مناقشة القضايا المصيرية التي تمس العيش اليومي للمواطن والقضايا الكبرى للدولة، إلى جولات من المصارعة اللغوية، ومقاطع من “ضريب المعاني”، وتسجيل “الكلاشات” بين القيادات الحزبية، اللهم بعض الأحزاب القليلة المعدودة على رؤوس الأصابع التي احترمت تاريخها واحترمت قيمة المواطن.
حيث انتقلنا من المؤلفات والإنتاجات الفكرية للرموز السياسية الوطنية الزاخرة بالقيم النبيلة والرسائل العميقة البناءة، إلى مقاطع فيسبوكية وفيديوهات على منصات التواصل تثير الضحك والهزل والتسلية أكثر مما تمس جانب التوعية، ولعب دور التكوين والتأطير السياسي للجماهير. وقد انعكس ذلك على المجتمع المغربي على عدة واجهات، أهمها العزوف السياسي الذي تمثل نسبة التصويت المتدنية أحد أوجهه، ناهيك عن غياب مشاركة الشباب في الحياة السياسية، وفقدان فئات عريضة من المجتمع الثقة في النخب السياسية، وغياب المتابعة والتفاعل مع جلسات غرف البرلمان.
من هذه الزاوية، يمكن التمييز بين الخطاب السياسي الرمزي للمؤسسة الملكية الممثلة للسلطة المركزية استنادًا إلى القواعد الدستورية والدينية، والذي يمتاز – أي الخطاب – بكونه أكثر توجيهًا للديمقراطية والإصلاح السياسي وبناء الدولة الحديثة في سياق الانتقال الديمقراطي المرفق بإجراءات وتدابير ملموسة، والذي يوضح في العديد من المناسبات التزامه واهتمامه بالقضايا السياسية للمواطن في حدود اختصاصاته الدستورية، والذي يتبنى مقاربة واضحة وثابتة. في الجهة المقابلة، نجد أحزابًا وقوى سياسية تحيين خطابها بناءً على موقعها في الخارطة السياسية وعلى احتمالية المكاسب والخسائر.
ولنا في الساحة الحزبية عدة أمثلة حيث نجد زعيم حزب معين يتغزل بزعيم حزب آخر ويفاوضه لتشكيل تحالف، سرعان ما يتحول هذا التغزل إلى انتقاد وتشهير وتصفية حساب سياسي يتعداه إلى ما هو اقتصادي بسبب تعنت الطرف المحاور. كما نجد قائد حزب يحلف أغلاظ الأيمان ألا يشارك في حكومة يرأسها زعيم حزب آخر، بل ويتهمه بتهم ثقيلة يشيب لها الولدان، لنتفاجأ فيما بعد بوجوده معه في تحالف أسرع من الوجبات السريعة بعدما تنصل من تحالف استراتيجي مع حزب آخر خارت أرقامه الانتخابية ، رغم أن التحالف في الأصل وُلِد ميتًا لكونه غير مبني على تقارب أيديولوجي أو تقاطع منهجي أو أي نقطة تماس بين الطرفين. زد على ذلك رصد تحالف بين القوى المحافظة مع القوى الحداثية، والقوى التقدمية الاشتراكية مع تمثيليات التوجه اليميني الليبرالي، إلى غير ذلك من مظاهر عدم التبات الموقفي والتشبث بالمرجعية الفكرية التي تحافظ للقوى السياسية على هويتها وكينونتها، لنتمكن من توطينها في الخارطة السياسية.
لطالما كان الخطاب السياسي، وخصوصًا الحزبي، يهدف إلى توعية المواطن وتحقيق مكاسب مجتمعية تستفيد منها كل أطياف المجتمع. لكن واقع الحال يوضح أن الخطاب الحالي زاغ عن هذه الأهداف ليحقق الأرباح الحزبية الضيقة، وتصريف الأزمات الداخلية، وتعديل البوصلة من مناقشة هموم عامة الشعب إلى خوض حروب كلامية وتقديم “شو” من بعض زعماء المشهد الحزبي، أقل ما يقال عنه أنه “شو حامض” لا يرقى إلى تطلعات المواطنين ولا يواكب سرعة تفاعل ودينامية رئيس الدولة.