من الرابح الحقيقي في غزة؟ بين حسابات قطر وتركيا وإسرائيل ومعاناة الفلسطينيين

الدار/ غيثة حفياني
تبدو الهدنة أو “الصفقة” الأخيرة في غزة وكأنها استراحة قصيرة في حربٍ طويلة لا يريد أحد أن يعلن نهايتها. خلف الشعارات والتصريحات الدبلوماسية، تتقاطع مصالح دولية وإقليمية معقدة تجعل من سؤال: من الرابح؟ سؤالاً مفتوحاً أكثر مما هو محسوم.
منذ بداية الحرب، لعبت قطر دور الوسيط الأكثر حضوراً، مستثمرة ثقلها المالي والسياسي في محاولات التهدئة، سواء عبر المفاوضات غير المباشرة أو عبر قنوات الأمم المتحدة والولايات المتحدة.
لكن، ورغم نجاحها النسبي في إقناع الأطراف بوقف مؤقت لإطلاق النار أو تمرير صفقة تبادل، فإن الدوحة لا تراهن على “النصر السياسي” بقدر ما تسعى لتثبيت صورتها كقوة دبلوماسية قادرة على التواصل مع الجميع: واشنطن، تل أبيب، وحماس.
إنها براغماتية قطرية دقيقة: الحفاظ على موقع الوسيط الموثوق دون أن تتحول إلى طرف منحاز بالكامل، خاصة في ظل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التي بدأت تتساءل عن حدود هذا الدور.
أما تركيا، فاختارت أن تُعبّر عن دعمها للفلسطينيين بلغة العواطف والسياسة أكثر من الفعل الميداني.
الرئيس رجب طيب أردوغان لم يُخفِ رغبته في استثمار الحرب لتعزيز موقعه في الشارع الإسلامي، مقدماً نفسه كصوت “الحق” في وجه “الاحتلال”.
لكن خلف هذا الخطاب، ظلت العلاقات الاقتصادية والأمنية بين أنقرة وتل أبيب قائمة، بل ومتصاعدة. وهنا يظهر التناقض التركي التقليدي: خطاب ثوري أمام الجماهير، ومصالح هادئة في الكواليس.
تركيا لم تربح كثيراً عملياً، لكنها كسبت حضوراً في المشهد الإعلامي والسياسي، وربما حاولت التذكير بأنها لا تزال رقماً في معادلة الشرق الأوسط.
إسرائيل تملك جيشاً متفوقاً، لكنها عاجزة عن إعلان “انتصار نهائي”.
فبعد شهور من القصف والدمار، وجدت نفسها أمام مأزق إنساني وسياسي كبير: انتقادات متزايدة في الغرب، توتر داخل الحكومة الإسرائيلية، وتراجع في التعاطف الدولي بعد المشاهد المروعة التي خرجت من غزة.
صحيح أن تل أبيب نجحت في إضعاف البنية العسكرية للمقاومة، لكنها فشلت في القضاء على إرادتها، بل زادت من عزلة إسرائيل الأخلاقية.
أما في الميدان السياسي، فإن صفقة الهدنة لم تمنحها ما كانت تبحث عنه: لا أمن مستقر، ولا نصر مقنع أمام الداخل الإسرائيلي المنقسم.
أما الفلسطينيون، فهم كالعادة الخاسر الأكبر.
دمار شامل، عشرات الآلاف من الشهداء، انهيار البنية التحتية، وتهجير قسري في شمال القطاع وجنوبه.
ورغم ما تحمله الصفقة من وعود مؤقتة بالإغاثة، إلا أن جوهر القضية لم يتغير: لا أفق سياسي، ولا ضمانات حقيقية لوقف العدوان، ولا رؤية واضحة لإعادة إعمار غزة.
بل إن بعض المحللين يرون أن ما جرى ليس سوى إعادة ترتيب للمشهد لتأجيل الانفجار القادم.
كل المؤشرات تدل على هشاشة التفاهمات الحالية.
الهدنة جاءت بضغط أمريكي ووساطة قطرية ومصرية، لكنها تفتقر إلى ضمانات تنفيذ طويلة الأمد.
فطالما أن إسرائيل لم تحقق “أهدافها النهائية”، وطالما أن حماس لم تضع سلاحها أو تضمن رفع الحصار، فإن احتمالات الانهيار تبقى مرتفعة.
الهدنة الحالية أشبه بعملية إنعاش مؤقتة لجسدٍ أنهكته الحرب، دون علاجٍ حقيقي للأسباب العميقة للصراع.
في ميزان الربح والخسارة، لا يبدو أن أحداً خرج منتصراً فعلاً.
قطر عززت دورها كوسيط، لكنها تحمل عبء الوساطة بين نيران متقابلة.
تركيا ربحت حضوراً خطابياً، لكنها فقدت بعض المصداقية الواقعية.
إسرائيل ربحت أرضاً مدمّرة، وخسرت صورتها في العالم.
أما الفلسطينيون، فخسروا كل شيء تقريباً، باستثناء تمسكهم بقضيتهم وعدالة نضالهم.
الصفقة إذن ليست نصراً لأحد، بل هدنة قصيرة بين خاسرين جميعاً، بانتظار الجولة القادمة من حربٍ يبدو أنها لم تنتهِ بعد، بل أُجلت فقط إلى إشعارٍ آخر.