أخبار الدار

عبد الرحمان اليوسفي.. رسائل التكريم و استعجالية رد الاعتبار للكفاءة والاستحقاق

يونس التايب 
 بعد الرسائل التي حملها خطاب العرش لهذه السنة، و ما تتيحه من أمل في بزوغ أفاق تجديد الدماء في دواليب و أساليب تدبير الشأن العام، و رد الاعتبار لمعايير الكفاءة و الاستحقاق و الالتزام الوطني، أبى عاهل البلاد، جلالة الملك محمد السادس، إلا أن يجسد، مرة أخرى، حرصه على تشجيع النماذج المضيئة و تكريم أحد رجالات الوطن الذين تميزوا بغيرتهم و إخلاصهم، و أبلوا البلاء الحسن في أداء مهامهم، و التزموا بسلوك النزاهة، و تجنبوا الشبهات، و ظلوا مجسدين لخصال التجرد و الموضوعية و تقدير مقام المسؤولية العمومية.
لحظة استثننائية أخرى، إذن، تلك التي تمت بعد زوال الأربعاء 31 يوليوز 2019، حين تفضل جلالة الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، بإطلاق اسم “الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي” على الفوج الجديد من الضباط المتخرجين من مختلف المعاهد والمدارس العسكرية وشبه العسكرية، وكذا الضباط الذين ترقوا في رتبهم ضمن صفوف القوات المسلحة الملكية. و مما جاء في الكلمة السامية بالمناسبة : "… وقد قررنا أن نطلق على فوجكم، إسم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الذي يتقاسم مع والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، ومع جلالتنا، نفس المبادئ الثابتة؛ في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة، والدفاع عن مصالحها العليا. (…) فكونوا، رعاكم الله، في مستوى ما يجسده هذا الإسم، من معاني الاستقامة والالتزام، والثبات على المبادئ، والغيرة الوطنية الصادقة؛ أوفياء لشعاركم الخالد الله ، الوطن، الملك”.
فور الإعلان عن الالتفاتة الراقية في حق السي عبد الرحمان اليوسفي، عمت مواقع التواصل الاجتماعي تدوينات تعبر عن فرح صادق يستحضر الدلالة القيمية الكبيرة للحدث في بعده السياسي و الاستراتيجي. و لا شك أن المواطنين فهموا الرسائل الموجهة للجميع، كي يسيروا سير المحتفى به، و يلتزموا بشيء من قيم الوطنية و الاستقامة و الجدية و تغليب المصلحة العامة، و الوفاء لثوابت الأمة المغربية كما عرف بها السي عبد الرحمان.
و لعل ما زاد من الأثر الجميل للأمر في النفوس، هو مضامين و قوة الكلمة السامية التي ألقاها عاهل البلاد أمام الضباط الذين أتوا لتأدية القسم، و التي طرحت في عمق معناها مسألة "القيم التي يستوجب التحلي بها في تأدية المسؤولية العمومية، و القيام بالواجب تجاه الوطن". كما أن دلالات الالتفاتة أعادت التركيز على سؤال جوهري يمكن استنباطه من الموضوعات و المحاور التي حملها خطاب العرش لهذه السنة، و الذي يمكن أن أجمله كالآتي : "ما السبيل لننهض بوطننا المغرب، لنعزز مكتسباته و لنعالج أعطاب التنمية و الحكامة فيه، و لنثمن رأسماله المادي و اللامادي، كي نجعل منه ذلك الوطن الذي يستحقه المغاربة، المدمج لأبناءهم و العادل معهم، و الداعم لهم، و الحامي لآمالهم و تطلعاتهم ؟"
و فيما اعتبرته شخصيا، امتدادا تلقائيا جميلا لتلك الرسائل الواضحة الموجهة لبعض "الفاعلين الذين عليهم أن يستحيوا مما هم فيه من تضييع للوقت و هدر للطاقات"، أثارتني، غداة حفل القسم، قصاصة إخبارية جاء فيها أن الزعيم المقاوم السي محمد بن سعيد أيت إيدر، حذّر جبهة البوليساريو من الدخول في "مزايدات ضد المغرب في هذه الفترة التي بدأ فيها ملف الصحراء المغربية يعرف انفراجا، وسيعود بالنماء وتحقيق الحريات المرجوة." واعتبر السي أيت إيدر أن "الموقف التصعيدي الجديد للجبهة ضد المغرب، على لسان زعيمها إبراهيم غالي، الذي هدد بدق طبول الحرب الميدانية في الأيام المقبلة، هو مجرد مزايدات فارغة وهراء من شأنه أن يعسر مهمة الوحدة المغاربية، ويجهض حلم الشعب الجزائري الذي عبر في احتجاجاته السلمية الأخيرة عن الرغبة في إدخال الجيش قلاعه وتحقيق الحكم المدني". وأضاف : "أقول للبوليساريو خصكم تدخلو سوق راسكم".
لا أخفيكم أنني تسائلت و قلت: "أليست هذه مصادفة بليغة، أتاحها قدر لا شك يريد الخير لأبناء المغرب، أن نستمع لخطاب عرش قوي يريد إحداث قطيعة مع ديناميكية تدبيرية و سياسية تنتج اللاتنمية و اللاتقدم و اللاعدالة مجالية و اللاازدهار اقتصادي و اللاإدماج اجتماعي؛ ثم نسمع في اليوم الموالي لعيد العرش، ملك البلاد و هو يطلب من ضباط شباب، هم كفاءات مغربية عالية، و من خلالهم كل من ألقى السمع و هو واع بحجم المسؤوليات و ثقل التحديات، أن يكونوا في مستوى معاني الاستقامة والالتزام، والثبات على المبادئ، والغيرة الوطنية الصادقة. ثم يخرج مباشرة بعد ذلك، أحد الرموز و الزعماء الوطنيين المقاومين من جيل السي عبد الرحمان اليوسفي، بتصريح يضع النقاط على الحروف يطلب من خصوم وحدتنا الترابية أن يكفوا عن "لعب الدراري" و "يدخلو سوق راسهم"؟ 
هكذا هم رجالات المغرب الحقيقيون، في الحاضر و الماضي، لا يتحدثون في غير قضايا الوطن، و لا يتدافعون إلا فيما يخدم مصالح المواطنين و الفئات الشعبية، و لا يتطاحنون بخبث و مكر على الكراسي و المواقع. إنما يدافعون عن القيم الحقة، و يتناقشون حول التصورات و البرامج و السياسات الكفيلة بتحقيق ما ينفع الناس.  و لا يسمع أحد عنهم أخبار الانهماك في الريع و الفساد و استغلال النفوذ، و توزيع المناصب لتحقيق مصالح الفاسدين من الأتباع و المريدين. رجالات المغرب الأوفياء هم من لم يترددوا، و لا يترددون، في التحذير من أوضاع تستدعي ذلك. يفعلون ذلك بحدة و جرأة أحيانا، و لكن بموضوعية و توقير دائم لموز الأمة المغربية و مؤسساتها، و لا يتحسسون رؤوسهم بجبن و هم صاغرون. رجالات المغرب هم من ينتقدون بشجاعة أمور تدبير الشأن العام، حين يتم اعتماد اختيارات و سياسات لا تستقيم و ما يرون فيه مصلحة عموم الناس. 
لكن رجالات المغرب الحقيقيون، و هم يصدعون بالحق، لا يغيرون شيئا من ولاءهم لثوابت الأمة المغربية و مقدساتها، و لا يبتزون الدولة، و لا يسمسرون في "المواقف" بحسب الظروف و الأهواء. هؤلاء كانوا و سيظلون في موقع استحقاق الاحترام و التقدير. لذلك تم تكريم السي عبد الرحمان اليوسفي، و تم من قبل تكريم السي آيت يدر من طرف جلالة الملك حفظه الله. و صونا للذاكرة الوطنية، سيتم بالتأكيد الاحتفاء بشخصيات أخرى، و رموز عديدة من أبناء هذا البلد العريق و الأصيل. و ستتجدد الدعوة الحكيمة إلى الاقتذاء بهم في سلوكهم الذي كان موسوما بسمو الأخلاق و الوطنية و استرخاص التضحيات الكبيرة. 
و لكن، بالمقابل، حتى ندعم حقا هذا التقليد، و نجعل من التكريم قطيعة حقيقية مع كل ما هو عكس كل القيم التي يحملها و يناضل من أجلها المكرمون و المحتفى بهم، على كل الشباب و على كل قوى الخير و الوطنية، أن تخرج عن صمتها و تساهم في النقاش العمومي، تنتقد و تقترح، و تشارك  و تتفاعل مع قضايا تدبير الشأن العام الوطني، و تفرض نفسها و حضورها، و تفرض على معرقلي تطور هذه البلاد، و على من يحاصرون الكفاءات و الأطر الشابة، أن يكفو نهائيا عما هم فيه من نفاق و بؤس و ضحالة الأخلاق و القيم. 
كما أن من الواجب علينا جميعا كمواطنين، و خصوصا الشباب و الأطر و الكفاءات، سواء من الجيل المخضرم أو الجيل الجديد، أن نجدد الغوص في تاريخ بلدنا، الحديث منه و القديم، لنتعرف أكثر على سير رموز طبعت التاريخ السياسي المغربي، و تميزت بأنفتها، و رسوخ قناعاتها السياسية و الوطنية، و صفاء سريرتها، و بعد نظرها، و سعيها لإعلاء قيم الخير و التنمية والمساواة بين كل أبناء الوطن. حينذاك سنستحضر معنى أن يكون قد مر من هنا زعماء من أمثال السي عبد الله ابراهيم، و السي علال الفاسي،  والسي المهدي بن بركة، و السي عمر بن جلون، و السي عبد الرحيم بوعبيد، و السي امحمد بوستة، و السي علي يعتة، و السي امبارك البكاي، و الفقيه عبد الله كنون، و العلامة المختار السوسي، و المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، و السي عبد الخالق الطريس، و الفقيه العلامة محمد بلعربي العلوي، و  السي محمد حسن الوزاني، و الدكتور عبد الكريم الخطيب…. ؛ و الشهداء المقاومون … علال بن عبد الله، و محمد الزرقطوني، و موحا أوحمو الزياني، و الحاج حمو الورزازي، و محمد سلام أمزيان، و عباس المساعدي .. و غيرهم كثير … كثير… و لا يسع المقام أن أذكرهم جميعا هنا. كما علينا كمواطنين و كمهتمين ألا ننسى من كانوا أيضا رموزا و منارات مغربية أصيلة، عبر التاريخ، في الفكر و العلوم، و الفقه و علوم الدين، و الفلسفة، و الثقافة و الفن.  
كل هؤلاء، و غيرهم كثير، آمنوا أن استحقاق الانتماء لهذه الأرض، و تجسيد تمغربيت الحقة، ليس بالأمر الهين. بل هو شرف كبير لا يمكن أن يناله إلا من التزم البذل و العطاء المخلص للوطن، و لهوية و ثقافة الوطن، و لثوابت الوطن، و لتاريخ الوطن، و دافع عن استقلال الوطن، و كرامة المواطنين، و سيادة الدولة الوطنية، و تعزيز ثوابت الأمة المغربية. أما من أبانت التجربة أنهم خصصوا كل الجهد ل "نضال الصالونات"، و نشر "الأوهام باسم الحقوق"، و لم يكفوا عن مراكمة المغانم بدون وجه حق، و أضاعوا حقوق الناس، و لم يصونوا الثقة و لا جسدوا الأمل الذي عقد عليهم، فهم ليسوا أهلا للتكريم. كما أن التاريخ لن يذكرهم، و لن تحتفظ بهم ذاكرة المواطنين مهما علو في الأرض و استعلوا على الناس و على الحقيقة. 
التاريخ سيذكر فقط رجالات المغرب الذين آمنوا أن هذه الأرض تستحق الكثير من التضحيات لتعلو راية المغرب، و يتحرر الشعب من أغلال التخلف و الظلم و الاستعمار و الجهل. لذلك، ندعو بالرحمة لأرواح الزعماء من أبناء المغرب المخلصين الذين قضوا نحبهم، و نتضرع إلى العلي القدير أن يبارك في صحة و عافية و عمر من لا زالوا أحياء ينتظرون أجلهم المحتوم، و ما بدلوا تبديلا. 
و يبقى كل الأمل معقودا على أن تكون هذه الأيام الوطنية الغراء التي نخلد فيها ذكرى مجيدة، بداية مرحلة تستثمر ما هو قائم من وعي بالخطورة الإستراتيجية لاستمرار وضعية الرداءة و العبث، في السياسة، و في تدبير قطاعات خدماتية و إنتاجية هامة؛ و يتم الشروع في تغيير ديناميكية التفاهة من أجل استرجاع الثقة، و إحياء الأمل، و القضاء على الفساد و المحسوبية و الزبونية و التهميش، و الحد من ظلم من بقي بيننا من كفاءات و طاقات، كان بإمكانها أن ترحل إلى أفاق رحبة أخرى، لكنها اختارت أن تظل في هذه الأرض، لتساهم في صناعة مستقبل أفضل … لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 + 18 =

زر الذهاب إلى الأعلى