دبدو.. عبق التاريخ ونموذج التعايش
لهذه البلدة قصة جديرة بأن تروى. في تفاصيل الأزقة العتيقة، ذكريات تقاوم النسيان. تعبق الأمكنة الممتدة على مدى البصر بأريج التاريخ. لا شيء يفلت في هذه الربوع من مشاعر الألفة التي تجتاح الزائر والعابر والمستكشف.
وحين يطل السائح على الهضبة، حيث تقيم دبدو، يتكشف الجمال المنبث على الجبال والسواقي وحقول الزيتون. تشرف السيارة على المدينة التاريخية، تطوقها الخضرة من كل جانب، فتتبدى علامات تشير إلى قرى صغيرة تقبع في سفوح الجبال وفي أعاليها. "دوار الجرانزة"، نقرأ على إحدى تلك العلامات، ثم تلوح في الأفق بلدة دبدو.. وادعة وجميلة، كما كانت دائما ومثلما لا تزال.
في مدخل المدينة لا شيء يختلف عن مشارف المدن الصغيرة. لكن جولة قصيرة تظهر مخبوء التراث وما انطوت عليه الذاكرة. تحث الأقدام خطاها على الزقاق العتيق وتنسرب بين الممرات الضيقة حيث اصطفت أبواب المنازل المسقوفة بالأخشاب. ثم تمضي صاعدة نحو نبع الماء الأشهر في هذه المدينة "عين سبيلية"، قريبا من الملاح حيث عاش اليهود إلى جانب المسلمين – على مدى قرون – في أجواء يطبعها الاحترام والتقاسم والعيش المشترك.
التعايش "صناعة محلية"
تستعيد الذاكرة الشعبية جزئيات لافتة في قصة التعايش الفريدة. طبعت ثقافة المشترك الإنساني حياة الناس بطابعها الخاص في هذه الربوع. هنا تمضي حياة الناس بعفوية. وهذه القيمة جزء أصيل في هذه التلقائية المنسابة. "إنهم يعيشون هذه القيم الإنسانية، بكل ما فيها من نبل، على السجية وبلا تكلف"، كما ترى مونية بوسحابة، المديرة العامة لجمعية الدار البيضاء الذاكرة، وذات الأصول الدبدوبية.
أمي رقية – مثلا – لا تزال تعد أكلة يهودية مغربية كانت معروفة في منطقة دبدو تسمى الرقاق. تبدع الحاجة، وهي تقترب من عقدها الثامن، في إعداد هذه الوجبة التي تصاحب كؤوس الشاي والقهوة في أماسي البلدة الجميلة.
تقول المرأة الثمانينية، في حديثها لوكالة المغرب العربي للأنباء، إنها تعلمت أصول الصنعة في إعداد الرقاق والثريد والمطروح من صديقاتها اليهوديات والمسلمات في زمن الشباب البعيد.
ويبدو أن العلاقات الإنسانية تكون "أعمق" في البلدات الصغيرة، شأن مدينة دبدو، كما يعتقد الباحث في التاريخ المعاصر رشيد دوناس. ويلاحظ الأكاديمي الشاب أن هذه المدينة هي الوحيدة – بعد وجدة – التي يوجد الملاح فيها غير محاط بالأسوار.
وتؤكد دراسات تاريخية أن غالبية الساكنة بدبدو كانت يهودية إلى حدود أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وتفيد محافظة متحف التراث الثقافي اليهودي المغربي زهور رحيحل أن أوائل اليهود الذين قدموا إلى دبدو هم عائلة الكوهن الذين كانوا في إشبيلية إبان سقوط الأندلس.
ومن اللافت أن ثمة تشابها يكاد يكون متطابقا بين تهجئة كلمتي "سبيلية" و"إشبيلية". تقول محافظة المتحف الذي يسعى إلى إحياء هذا التراث المغربي المشترك إن "عين سبيلية" – المطلة على الملاح وسط أحياء ولاد يوسف وعمارة والكبابيد – دعيت بهذا الاسم تيمنا بمدينة إشبيلية التي جاء منها القادمون الأوائل واسترجاعا للذكريات التي حملوها معهم من هناك.
حب من أول نظرة
وتمتد الرحلة صعودا إلى حيث تنتصب قصبة دبدو بأسوارها العالية وأبراجها الثمانية. هنا، لا يزال مسجد مريني – على الأغلب – قائما، وغير بعيد بنايتان ذواتا قبب وكتابات على الجدران وما يشبه القبور.
يقول مؤرخون إن هذه القصبة بنيت في الفترة المرينية في غضون القرن الثالث عشر. وتؤكد الأستاذة الباحثة بجامعة غرونوبل بفرنسا كلير مارينور أن دبدو التي كانت تقع على طريق القوافل التجارية وأشرت على حضور تاريخي وازن جديرة بأن تكون "جاذبة لكل الذين يهتمون بالتاريخ والحضارات والحوار بين الثقافات".
إن دبدو "غنية بتاريخها"، تجزم المخرجة الفرنسية المغربية سيمون بيتون التي تصور مشاهد من فيلمها الوثائقي الجديد بأحياء وأزقة البلدة التاريخية. وحين سألتها وكالة المغرب العربي للأنباء عن انطباعاتها بشأن المدينة، أوجزت بيتون قائلة "إنه لأمر مثير أن أكون هنا".
ومثل الأستاذة الجامعية والفنانة السينمائية كثير من الذين عشقوا المدينة من أول نظرة. من هؤلاء فتح الله مزيان. وهو مغربي مقيم بفرنسا عاد إلى البلدة القديمة واشترى بيتا في الملاح بجوار عين سبيلية. قرر الرجل أن يترك وظيفته كإطار في العمل الاجتماعي بباريس ثم أعاد ترميم المنزل القديم ليصبح مكان إيواء سياحي. يقول مزيان لوكالة المغرب العربي للأنباء "أستقدم سياحا من فرنسا.. فيحبون دبدو من أول وهلة".
قام الرجل الخمسيني بمعية شباب البلدة بتأسيس جمعية محلية تعنى بالتعريف بالمؤهلات التاريخية والطبيعية والسياحية للمدينة. "بحثنا في تاريخ المدينة"، يضيف المتحدث، فوجدنا أن "الرهان على الثقافة من شأنه الإسهام في تحريك عجلة التنمية".
ويسود اعتقاد جازم في أوساط المهتمين بتراث هذه المدينة الساحرة، بتاريخها وجغرافيتها، أن السياحة الثقافية مدخل بالغ الأهمية لتنمية هذه الربوع. ويؤكد كثيرون أن تضافر الجهود من أجل تسويق صورة مدينة دبدو، بذاكرتها الزاخرة وطبيعتها الخلابة، سيشكل نقلة نوعية لهذه المنطقة. إن السمفونية التي تعزفها دبدو "كأنها جذبة روحية"، يقول الفاعل الجمعوي رشيد بوغالب الذي اكتشف المدينة في رحلة سياحية خلال تسعينيات القرن الماضي، ولم يتوقف عن زيارتها كل ربيع منذ ذلك الحين.
إنها توفر – برأي المتحدث – عزلة ملهمة لإعادة ترتيب الأوراق والابتعاد عن ضوضاء المدن الكبيرة.. وكيف لا تكون ملهمة وقد جعلها الروائي المغربي المقتدر محمد برادة فضاء لآخر رواياته المنشورة "موت مختلف"، الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية؟
يؤكد برادة أن علاقته بدبدو "هي علاقة إبداع".. فهل تسير البلدة العتيقة على خطى كبريات المدن الملهمات؟.. من يدري، فعبق التاريخ حين يخالط شذا الجغرافيا يصنع المعجزات!