غير مصنف

صلاح بوسريف يكتب عن مجتمع بدون إنسان

صلاح بوسريف

نعتقد، دائماً، أن تغيير وزير بوزير، هو ما سيكون مفتاح الجنة في تغيير الأوضاع التي نعيشها، أو في تحويل الإدارة من إدارة واقفة لا تعمل، إلى إدارة تعمل. هذا حساب غير دقيق، أظهر مع كل التغييرات التي حدثت، أو ما اعتبرناه تعديلات حكومية غير ما توخيناه من نتائج. فالأقفال التي نرغب في فتحها مغلقة، بل أصابها صدأ، معه بات من المُسْتَعْصِي إن لم نقل من المستحيل فتحها، والإدارة بقيت هي نفسها، تعمل بنفس الإيقاع، وبنفس الوتيرة، لا شيء فيها تغيَّر، بل ثمة إدارات استفحل فيها الكسل وصار أحد خصوصياتها، وانعكس هذا على عموم المواطنين الذين باتوا يؤمنون أن مصالحهم لا تُقْضَى باعتبارها واجباً وضرورة، بل وحقّاً من حقوق المُواطنة، بل وحقوق الإنسان، إذا ما شئنا أن نُدقِّق في الأمر أكثر، وبصورة أكثر وضوحاً.

إن مشكلاتنا التي باتت مُزْمِنَة، وقد ورد في الخطاب الملكي ما يُشِير إلى هذا الوضع، وإلى وجود موظفين يُقاومون كل تغيير، بل لا يرغبون فيه ويحرصون، بصورة أو بأخرى على أن تبقى دار لقمان على حالها، لأنهم هم المُسْتَفِيدُون من الركود الحادث فيها، تحتاج إلى تغيير جذري، ليس في الأشخاص، بل في العقليات، في الثقافة، في التربية، وفي مفهوم الواجب والمسؤولية، وهذا لن يحدث، ما لم نَصْعَد به من الأسفل إلى الأعلى، أعني من الأسرة والمدرسة والمجتمع والشارع، إلى العمل والوظيفة، وما يتحمله كل واحد من مسؤولية، كيفما كان شأنها، ومهما كانت طبيعتها.

الطفل الذي يفتح عينيه على أبٍ لا يعمل، يكذب ويغش، ولا يتصف بصفات المُربِّي أو المثال، بالأحرى، حتماً سيكون صورة لهذا الأب، لأن الأب بالنسبة له هو المرآة لتي فيها يرى وجهه والصورة التي ينبغي أن يكون عليها. وهذا بين أخطر ما يتسبب في كثير من المشكلات التي تُؤَدِّي إلى الانحراف، وعدم تقدير المسؤولية، والدخول إلى المجتمع والواقع من غير بابهما. ولعل دور المدرسة، قد يكون حاسماً، في هذا الأمر، لأنَّ المدرسة التي لا يوجد فيها انضباط، ومفهوم الزمن فيها منعدم، لا أحد يحترم أوقات الدخول وأوقات الخروج، والغياب الحضور، وعدد الحصص التي على المعلم أن يُدَرِّسَها، وتمييز الدرس عن التهريج والاستهتار، أو الكلام العام، ثم التربية والتوجيه، بحيث يكون المعلم، بالنسبة للتلميذ قُدْوَة ومثالاً، ويتشرَّب التلميذ من المعلم القيم التي تسمح له بالانخراط في العمل دون استهتار أو تهاون، ودون أن يُحِسَّ أن المدرسة عِبْئاً عليه، بل هي جزء من المحيط العام التي يعيش ويحيا فيه، لا يتلكأ في شيء مما هو ضرورة وواجب، كما أن روح المبادرة والتطوُّع، تصير إحدى ميزات هذا الطفل الذي نُهَيّئُه للانخراط في المجتمع، وفي إعداده للمستقبل، باعتباره هو المدرس، والمدير، والقاضي، والطبيب، والوزير، والأب أو الأم، وهو المسؤول عن شؤون المواطنين، وعن إدارة شؤون الدولة، وغيرها من الأمور التي بها يتأسَّس معنى العمران، وبها تتطور المجتمعات وتتقدم، وتتجاوز كل ما كان فيها من وَهَنٍ وتَراخٍ، وتتحول، بالتالي، من مجتمعات إنتاج ووفْرَة ورفاه.

ما لم ننزل إلى الأسفل، ونشرع في تَمْتِين أساسات المجتمع، وفي إعادة البناء وفق نموذج للتربية والثقافة والتعليم، نحرص فيه على تربية وتكوين الإنسان، فلا شيء سيتغيَّر، إذا ما بقي نموذج التربية والتكوين هو نفسه، بنفس التَّراخي والتَّهاوُن والتواكل، وبنفس العقليات، ونفس اللغة، ونفس المنهج.  وحتى لا نكذب على أنفسنا، فللنظر إلى بعض المجتمعات التي هي اليوم، مجتمعات رفاه ووفرة، ومجتمعات الإنسان فيها هو إنسان عامل، مُقْتَنِع وراضٍ بما يقوم به، ويعتبر ما يقوم به من إعمال، هي ضمن واجبه، وأنه هو المسؤول عن القيام بها، لا غيره، لأن الغير، هو أيضاً له عمله الذي يقوم به، كما أن نظام الإدارة والشُّغْل، هو نظام له قوانينه وضوابطه التي لا يمكن الإخلال بها، لأن كل إخلال، تترتَّب عنه نتائج، العامل والموظف مُدْرِك للإهانة التي سيتعرَّض لها، باعتباره خان واجبه، وخان ضميره، وخان المسؤولية التي أوكلت له، وخان مصالح الناس، بل مصلحة الوطن الذي لا يقبل بالتَّعثُّر أو التكاسُل والتَّواكُل والاستهتار.

يمكن، في هذا الصدد، أن أَذْهَب إلى آسيا، وإلى اليابان، تحديداً، هذه الدولة التي لا تتوفر على موارد طبيعية كثيرة، وهي بلد يقع في مفترق الزلازل والاضطرابات الطبيعية، لكنها أدركت أن الإنسان ثروة لا تُقَدَّر بثمن، وأنَّ نهوض البلاد، وخُرُوجها من البؤس الذي كانت تعيش فيه، رهين بالإنسان، وأن البناء من هنا يبدأ، من الإنسان، من الأسرة، ومن المدرسة، أي من التربية على الواجب والمسؤولية، ومن التربية على المُواطَنَة، وعلى حُبّ العمل، لأنَّ المجتمع، ليس هو الإنسان العاطل، الفاشل، المُتواكِل، بل هو الإنسان العامل، المُنْتِج، الذي يخدم الآخرين، فيما هو يخدم المجتمع، ويخدم نفسه في نفس الوقت، لأنَّ ما قد يتحقق من رفاه في المجتمع، يعود على الجميع، لا على طرف دون آخر، أو فئة دون أخرى.

إننا، حقَّاً نعيش في وضع حَرِج، ونعيش خارج الإصلاح الجذري، نكتفي بالترقيع، وبترميم الكسور والشقوق، دون أن ننزل إلى أسفل البناء ونختبر الأساسات، ونُعِيد البناء وفق رؤية ومنهجية،وثقافة أخرى، غير ما هو موجود عندنا، في بيوتنا، وفي مدارسنا، وفي شوارعنا، فنحن مجتمعات بدون إنسان، بدون ثقافة، وبدون وعي بما نحن فيه من خلل وعطب وانْتِكاس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر − 10 =

زر الذهاب إلى الأعلى