ثقافة الاستهلاك والاستعادة !!!
صلاح بوسريف
مهزومون نحن العرب، تابعون، لم نعد قادرين على حَسْم أمورنا بيدنا، بما نراه ونريده، بما يدخل في طبيعة فكرنا وثقافتنا، أو بما نتخيله، ويبدو لنا أنه الحل الناجع لمشكلاتنا. كل شيء يأتينا من خارجنا، لأننا، ببساطة، لم نعد ننتج شيئاً، فنحن اكتفينا بالاستهلاك والاستعادة، وحتَّى حين نريد أن نكشف عن وجودنا، فنحن نكتفي بالنظر في الماضي، واعتباره هو نحن، وكأننا لم نخرج من هذا الماضي، أو أنَّ هذا الماضي لم يخرج منا.
انهزمنا سياسياً، واقتصاديا، وثقافيا، وانهزمنا اجتماعياً، أيضاً. لا نملك سوقاً بها نفرض عملاتنا، أو نفرض بضائعنا، ونفرض تعاقداتنا على من نُسَوِّق لهم ما أنتجناه، لأننا، في الأصل، لا ننتج، اكتفينا أن نكون سوقاً لعرض سلع الآخرين، من أمم وشعوب الأرض، واكتفينا باستيراد كل شيء، بما فى ذَلك الخبز الذي نأكله، وقريباً، ربما، سنستورد الماء، الذي بدا أنَّنا شرعنا في معاناة شُحِّهِ، وفي ما صرنا نراه من انحسار للمطر الذي هو مصدر زراعاتنا، وما نعتمد عليه في قُوتِنا اليومي.
لسنا دولا صناعية، ولسنا دولاً الاستثمارُ فيها ناجعاً، اعتمدنا، دائما على الزراعة، وعلى السياحة، رغم أنهما لم يحققا ما كانت تتوخاه جميع المخططات الاقتصادية التي أوهمتنا بالرَّخاء، كما اعتمدنا على الغاز والبترول، وهما من الموارد الطبيعية، التي تَبَّين أنهما كان نقمة علينا وليس نعمة، وساهما في تخلفنا بدل تقدمنا، بل وضاعفا من هزيمتنا، ومن انتكاساتنا، لم نستفد منها شيئاً، ولا كانا لنا حلا، أو وسيلة غنى ورفاه، فالشعوب لم تر شيئاً من عائدات الغاز والبترول، لأن المُتَنَفُِذِين من العرب ومن غير العرب، هم من حوَّلوا هذين المصدرين إلى ثروات شخصية، لا علاقة لعائداتها بالتنمية، ولا بالبناء، ولا برفاه الشعوب وسعة عيشها. ضَنَكٌ تِلْوَ ضَنَك…
عسكرياً، نحن نستورد كل شيء من أمريكا و روسيا، أو من الغرب عموماً، نستورد التقنيات الحديثة، كما نستورد الألبسة وما نرتديه من ثياب وكسوة، ونستورد الورق والحِبْر، وآلات النسخ والطبع، ونستور السيارات والطائرات، وقطع غيار السيارات والطائرات، وحتَّى حين ننتج، فنحن نكتفي بتركيب بعض ما يأتينا جاهزاً للتركيب من الغرب، فقط، لأن اليد العاملة عندنا أرخص وأبخس، منها في الغرب.
لكن خطر الهزيمة الكبير علينا، هو هزيمتنا الثقافية، تعليمنا فشل، ولم يعد قادراً على النهوض، رغم كل الوصفات وما نضخه فيه من دماء وأموال، جامعاتنا في ذيل التصنيفات الجامعية العالمية، إعلامُنا مُحْتل، إما بفكر ماضوي اجتراري لا يقدر على طرح أفكار وأسئلة وقضايا جدية وجديدة، وإما بما يفرضه علينا منطق الخنوع للغرب، الذي نُقَلِّد برامجه، وأفكاره، وخيالاته، بطريقة رثَّة، لا تليق بعقل حَيّ، يقظ، مبتكر، ومبتدع. قِيَمُنا، انقلبت رأساً على عقب، وتحوَّلت مجتمعاتنا إلى شبه غابة لا يحكمها أحد، أو لا أحد يعرف كيف تجري فيها الرِّيح. تَسَيُّب عارم، انعكس على الأُسَر، وعلى الأبناء، وعلى فئات واسعة من الشبان المقبلين على الحياة الدنيا، الجميع فقد البوصلة، والتبست القيم بسلوكات طارئة، كان فيها للتقنيات الحديثة، ولوسائل التواصل الاجتماعية دور كبير في قلب الرأس مكان الرجل، والرجل مكان الرأس، ظنّاً منا أننا نرى الأشياء بوضوح، في ما هي مضببة، غائمة، ملبدة، انتشر فيها السواد، وعمَّ فيها التشوُّش والالتباس. لم نعد نهتم بالإنسان، بل سعينا إلى اعتباره أداة، ووسيلة، ولم ننتبه إلى أنه هو الغاية، وهو عقل، وفكر، ووجدان، وهو ما تنهض به المجتمعات أو تسقط، لأن الإنسان لا يوجد إلا بالتعليم، والتكوين، والتثقيف، وشخذ الفكر والعقل، وتفجير ما في نفسه من طاقات، ومن قدرة على الإبداع، والاقتراح، والإنتاج، والبناء. انهيار الثقافة، أو وضعها خارج اهتماماتنا، هو سعي حثيث، لقهر الإنسان، وتحويله من إنسان إلى حيوان، بكل ما قد ينفجر في داخله من نزوعات وسلوكات بَهِيمِيَّة، لا يمكن التنبوء بما قد يصدر عنها من أفعال، رغم أن بعض هذه الأفعال، شرعنا في استشعارها، واستشعار ما فيها من خطر علينا جميعاً.
لم تعد الدول «العظمى» تحتل الدول الصغرى، أو تغزوها بالجيوش والدبابات، هذه حرب انتهت، وحتَّى إذا حدثت، فهي تكون لوقت قصير، لأن الحرب اليوم، هي حرب ثقافية، لها انعكاسات على الاقتصاد والمجتمع، بل على الإنسان الذي أصبح مُهيأً لامتصاص كل ما يفد عليه من أراضي الآخرين، في ما هو لم يعد يؤمن بأن له أرض ووطن، لأنَّه، لم يمتلك ما يكفي من الحماية الثقافية، التي تسمح له بتمييز الأشياء، وبقراءتها وفهمها، وفق سياقاتها وشروطها التاريخية، بل والثقافية.
نحن، إذن، في وضع جد حرج، ما جعل إحدى الجوائز العالمية الكبرى في كل مجالات العلم والمعرفة، وهي جائزة نوبل، تستخف بنا، وتسخر منا، وتعتبر إسرائيل، ودول أخرى أقل شأناً منا في آدابها، على الأقل، أهم منا، ولا نستحق أن نكون إلى جانبها، وهذا تعبير صارخ عن هزيمتنا، ووجودنا الذي بات عدماً في نظر الآخر، لأننا لم نفرض فكرنا، ولا رأينا، ولا وجودنا بما عندنا من قدرات وإمكانات، بل انبطحنا، وصرنا في يد الآخر، سوقاً وأداة، لا غير.