فن وثقافة

طلحة جبريل يكتب حلقات عن قصة تأسيس “وكالة المغرب العربي للأنباء” (الحلقة الأولى)

طلحة جبريل 

كان ذلك منذ سنوات مضت. كنت آنذاك اعد موضوعا يتعلق بالقضية الفلسطينية. وأشار علي الصديق محمد العربي المساري (رئيس تحرير صحيفة “العلم” أيامئذٍ) الاتصال بالأستاذ المهدي بنونة باعتباره الذين عايشوا الوقائع الكاملة لقرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة. لم تكن لي سابق معرفة بالأستاذ بنونة، وإن كنت قد سمعت بعض أصداء حول سيرته الذاتية.
في مكتبه في قلب مدينة الرباط. بدأنا حديثا حول وقائع ما جرى في نيويورك عام 1948، حين كان الأستاذ المهدي بنونة مندوبا للحركة الوطنية المغربية يسعى لطرح قضية بلاده على المنتظم الدولي ويشرح كفاح شعبها لنيل الاستقلال. يومها شد انتباهي بقدرته الفذة على سرد الأحداث وتحليلها تحليلا دقيقا، بذاكرة متقدة تنبش تاريخ الوقائع وتربط بين تفاعلاتها ولا تهمل أدق التفاصيل.
اختمرت الفكرة في ذهني، خاصة بعد أن أطلعني على وثائق تكتسي أهمية بالغة، لكن لم أرد طرح الموضوع، فقد كان لقاء للتعارف.
بعد ذلك بسنوات، جاء رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” آنذاك الى المغرب في مهمة صحفية. في الطريق من مراكش الى الرباط طرحت عليه الفكرة. وشرحت له دوافعها فوجدت لديه قبولا وشجعني على البدء في العمل.
عندها باب ممكنا الحديث مع الأستاذ المهدي بنونة حول تسجيل مذكراته تمهيدا لنشرها، ولم يخب ظني فقد تحمس وابدى استعدادا وبدأنا العمل في مايو 1983.
لا أود القول بأنه كان عملا مضنياً، لكن لا جدال أن الفترة التي استغرقناها وهي خمس سنوات كاملة، لم تكن فترة هينة.
اعتمدنا منهجا صارماً. يقضي بالحديث حول ما سيتم تسجيله أولا. لذا كان عليه مراجعة ملفاته وأوراقه الخاصة، وكان علي قراءة كل ما كتب حول الفترة التي ستغطيها المذكرات، لإثراء النقاش، خاصة وأن المذكرات تتناول أحداثا من المشرق والمغرب.
وهي لم تكن املاء من جانب واحد بل كانت محاورة.
بعد خمس سنوات كانت الحصيلة تسجيل 34 شريطا، تم تعديل تفريغها في المرحلة الأولى ثم أعدنا قراءتها سويا لتعديل ما يستوجب التعديل والإضافة ثم قراءة ثالثة لكل الأوراق لضبط الصياغة وتبع ذلك تقسيم المذكرات على حلقات لتنشر مع الصور وأخيرا مراجعة ما نشر لإعادة تنقيحه.
إن تلك المذكرات، هي في الواقع الأولى من نوعها لشخصية مغربية، إذ اعتاد المغاربة أن يبقى تاريخهم الحديث شفوياً، وحتى الذين كتبوا حول سنوات المغرب الصعبة منذ بداية عهد الحماية الى بزوغ فجر الاستقلال تناولوا بالتحليل بعض الوقائع وليس تاريخها.
أثارت تلك المذكرات بعد نشرها ردود فعل متباينة داخل وخارج المغرب. وصلت الى حد مثول صاحبها أمام القضاء.. ربما لأنه تعرض فيها الى ماهو مسكوت عنه. تابعت مع المهدي بنونة وقائع المحكمة.. وحضرت جميع جلساتها، وكان قرار المحكمة في النهاية براءة الاستاذ المهدي بنونة من تهمة “السب و إشانة السمعة”.
الى هنا اعتقد بضرورة نقطة على السطر. والى  الوقائع التي ستؤدي لتأسيس “وكالة المغرب العربي للأنباء”.
الآن لنستمع إلى ما قالها لي المهدي بنونة عن قصة وكالة المغرب العربي للأنباء :
” في أواخر عام 1957 ، زار الملك محمد الخامس الولايات المتحدة . وقبل سفره إلى هناك كلفني بالتوجه الى واشنطن للتمهيد للزيارة ، خاصة من الجانب الإعلامي . كانت للمغرب سفارة ناشئة في واشنطن يتولى مسؤوليتها الدكتور المهدي بن عبود . واختياري للمهمة مرده إلى الفترة الطويلة التي امضيتها في الولايات المتحدة قبل استقلال المغرب .
في سبتمبر 1957 سافرت إلى واشنطن للاعداد للرحلة . ولم أجد صعوبة في انجاز مهمتي لان سمعة محمد الخامس وصيته الذي وصل إلى هناك وفرت لنا الأجواء الملائمة .
اكتست رحلة الملك محمد الخامس إلى الولايات المتحدة أهمية خاصة . كان الرئيس الأمريكي آنذاك هو دوايت ايزينهاور ونائبه ريتشارد نيسكون .
بدأت الزيارة الرسمية  من واشنطن حيث استمرت الإقامة ثلاثة أيام. واشتملت على الاستقبال الرسمي وعشاء في البيت الأبيض. وأقام محمد الخامس حفلة استقبال كبرى في احد فنادق واشنطن حضرها أعضاء من الحكومة الأميركية ومجلسي الشيوخ والنواب وعدد كبير من المدعوين وصل إلى أربعة ألاف شخص، حرص الملك محمد الخامس شخصيا على استقبالهم جميعاً.
إكتست الحفلة طابعا مغربيا ، وكان تأثيرها كبيراًعلى الأوساط الأمريكية وحظيت بحيز مهم في وسائل الإعلام ، إذ كانت الأولى من نوعها التي يقيمها رئيس دولة زائر.
بعد واشنطن،تجول الملك محمد الخامس في بعض الولايات اشتملت على زيارات لمراكز قيادية بنيت تحت الأرض وجهزت تجهيزا الكترونيا ضخما شاهدنا تلك التجهيزات للمرة الأولى . والواقع أنها كانت مدهشة تماماً.
كما زار محمد الخامس بعض المنشآت الاقتصادية والمشاريع الزراعية والصناعية في ولاية كاليفورنيا حيث زار مدينتي سان فرانسيسكو ولوس انجلوس كما زار أيضاً ولاية فلوريدا في الجنوب ، وبعض الولايات في الشرق خاصة نيويورك .
كما زار الملك محمد الخامس مبنى الأمم المتحدة ، حيث قدمت له هدية تذكارية مازالت موجودة حتى اليوم ، وهي عبارة عن جدارية بها أعمال من الفسيفساء المغربي من الزليج والخشب والجبس. والتقى الملك في الأمم المتحدة بعدد كبير من المسئولين في المنظمة الدولية ومع رؤساء الوفود، وعقد ندوات صحفية .. والتقى مع اندية الصحافة الدولية.
أراد الأميركيون أن يطلعوا محمد الخامس على ما من شأنه التأثير على المغرب، وفي هذا السياق قدموا له نسخة اصلية من أول معاهدة وقعتها الولايات المتحدة مع دولة أجنبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة + 17 =

زر الذهاب إلى الأعلى