فن وثقافة

طلحة جبريل يكتب حلقات عن قصة تأسيس “وكالة المغرب العربي للأنباء” (الحلقة الرابعة)

طلحة جبريل

زار المهدي بنونة مراراً دولاً أفريقية في إطار الترويج لنشرة وكالة المغرب العربي للأنباء لإقناع المسؤولين فيها بالاشتراك معنا. اذ لم تكن نوزع نشرة الوكالة مجانا. لكن قيمة الاشتراك كانت ضئيلة. وحين اشتركت 23 دولة افريقية في النشرة اضحى ذلك كافيا لتغطية النفقات، دون ربح.
يقول المهدي بنونة  توخينا الدقة والمصداقية في عملنا، وذلك على ضوء دراسة عقليات ورغبات واتجاهات الافارقة على سبيل المثال حين نتحدث عن قضية فلسطين، تحاشينا استعمال الألفاظ والمصطلحات التي درجنا على استعمالها في العالم العربي.


بعد مضي فترة على تعاملنا مع الدول الافريقية باتت هذه الدول مقتنعة بجدية ومصداقية وكالة المغرب العربي للانباء وهنا تحضرني واقعة تؤكد ذلك. كنت أقوم بجولة في بعض دول غرب افريقيا وتوقفت في كوناكري عاصمة غينيا، وزرت وزير الإعلام حينئذ عبد الله ابراهيمه، وخلال اللقاء تحدثنا في مواضيع شتى. وتطرقت أثناء الحديث إلى مسألة عدم تسديد غينيا لاشتراكها في الوكالة منذ شهور، واعتذر لي المسؤول الغيني بأن أوضاع بلاده المالية ليست على ما يرام وهي تفتقر للعملات الصعبة، لكنه وعدني بتسديد الاشتراكات المتراكمة في وقت لاحق.
في اليوم نفسه طلبت اللقاء مع الرئيس أحمد سيكوتوري وتحدد الموعد، وفوجئت به أثناء الحديث يتعرض لموضوع ديون الوكالة التي بذمة وزارة الإعلام. قلت له، ان الحديث في الموضوع مع رئيس الدولة مسألة مخجلة ومحرجة، إذ يفترض أن أتحدث فيها مع الموظف المختص في وزارة الإعلام وليس حتى مع الوزير، ولكن عبد الله ابراهيمه تربطني به صداقة شخصية، ومن هذه الزاوية تطرقت للمسألة، وأنا جد محرج أن يصل الأمر الى رئيس دولة. أجابني سيكوتوري بأن بلاده حريصة على التزود بأخبار وكالة المغرب العربي للأنباء. التي وصفها بانها وكالة جادة ومستقيمة، وأضاف: أنت تعرف أن الرئيس جمال عبد الناصر من أعز أصدقائي، ونحن نستلم وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية. لكنها حافلة بالدعاية واخبارها غير دقيقة وقد نبهت أخي الرئيس جمال عبد الناصر الى هذا الأمر، الا أنهم ما يزالون مستمرين على المنوال نفسه، لذلك نحن لا نستعمل نشرتهم بل نستعمل نشرة وكالة المغرب العربي، رغم أننا نشتريها، في حين نستلم نشرة وكالة أنباء الشرق الأوسط بالمجان.
ورددت على سيكوتوري بأن إشادته بالوكالة تكفينا ويمكنهم الحصول على النشرة دون مقابل. ورغم ذلك سددت غينيا. بعد أشهر من زيارتي لكوناكري، ماعليها من التزامات.


يمضي بنونة قائلاً " دخلنا  السوق الافريقية معتمدين على استقامة الوكالة ونزاهتها ومصداقيتها كما حرصنا على توزيع أخبار الدول الافريقية في الخارج لكسب ثقة زبائننا. وأذكر على سبيل المثال ان مصنعا للاحذية أنشئ في غينيا. و نشرنا خبرا مقتضبا في الوكالة حول افتتاح هذا المصنع. وبعد 24 ساعة تلقينا طلبا من وكالة الأنباء اليابانية (كيودور) لتزويدهم بمزيد من التفاصيل حول المصنع اذ كانت اليابان تبيع كميات كبيرة من الاحذية في الاسواق الغينية، لذلك ارادت معرفة كافة التفاصيل حول إنتاج المصنع. من هذا المثال يتضح أن الوكالة خدمت الدول الافريقية في اتجاهين. أولا بتزويدها بالاخبار العالمية. وخاصة اخبار العالم العربي، وثانيا بترويج أخبار هذه الدول في العالم.
بعد مرحلة التأسيس والانطلاقة بدأت وكالة المغرب العربي تحتل مكانة مرموقة وأضحت تبث أخبارها بالعربية والفرنسية، داخل المغرب، و بالفرنسية والانجليزية خارج المغرب. وبعد فترة توصلنا إلى اتفاق مع وكالة الانباء الاسبانية (ايفي) بتوزيع نشرتنا في أمريكا اللاتينية ، على أن تتولى وكالتنا توزيع أخبار ايفي في الدول العربية. أضحى للوكالة وزنها وسمعتها، مما وفر لها أسباب الاستمرار والتطور فأصبحنا نوزع نشراتنا حتى على الوكالات الكبيرة. رغم أن صادراتنا من أخبار لم تكن توازي وارداتنا.
استمرت الوكالة معتمدة على نفسها ولم تتلق في يوم من الايام مساعدة من الدولة. ونظرا لابتعادي عن العمل الحزبي، خاصة بعد أن التحقت بالديوان الملكي. أضحت للوكالة مصداقيتها بالنسبة للأحزاب كافة. وحرصت على نقل آراء هذه الاحزاب  طبقا لما ينشر في صحفها، كما دأبت الوكالة على نشر تصريحات زعماء الأحزاب والنقابات دون تحيز لأي جانب. ولم تكن تلك مهمة سهلة، خاصة بالنسبة لموقف الحكومة، التي لم يرضها مسلك الوكالة وسياستها المستقلة ولعلها في ذلك لا تختلف عن كل الحكومات في العالم الثالث. وظل هذا الموضوع عرضة للجدل و للنقاش بيني وبين الوزراء طوال فترة عملي في الوكالة. خاصة وزراء الإعلام. وكثيرا ما تأزمت العلاقة مع الوزراء بسبب آراء المعارضة التي تبثها الوكالة. ولابد لي من الاشارة الى أننا وجدنا دائما في الملك الحسن الثاني الملجأ الأخير حين تتعقد الامور، وأكثر من مرة يستدعيني الملك حين تتأزم علاقة الوكالة مع احد الوزراء او المسؤولين الكبار، فاشرح له وجهة نظري، وكان ينصفنا باستمرار وتنتهي المسألة عند هذا الحد. وحتى حين نرتكب خطأ ما، والتقي بالملك واقر أمامه بوقوع الخطأ كان يقدر ذلك ويقف الى جانبنا، كما حمانا من تعنت أي مسؤول والامثلة كثيرة لا أرى أنها تحتاج الى سرد. وهو في ذلك يبدو حريصا على المبدأ الذي وضعه الملك محمد الخامس شعارا للوكالة عند افتتاحها حين وجه رسالة الينا تقول أن "الخبر مقدس والتعليق حر" وظلت الوكالة تعمل وفقا لهذا الشعار.
استمرت بعض الصحف المكتوبة بالفرنسية والتي يملكها سياسيون تصدر في المغرب رغم أن القانون ينص على ضرورة ملكية المغاربة للصحف التي تصدر داخل البلاد. لكن تم التغاضي عن هذا القانون، وكان مفهوما سبب استمرارية صدور هذه الصحف. إذ انها حرصت على التعبير عن وجهة نظر الحكومة رغم ان بعض المسؤولين حاولوا خلال فترات متباعدة إصدار صحف موالية، لكنها لم تقو على الاستمرار رغبت شخصيا في محاربة هذا الوضع  فاستأذنت الملك الحسن الثاني في إصدار صحيفة بالفرنسية. إذ لم يكن متاحا أن أتولى إدارة الوكالة وصحيفة في الوقت نفسه. وقد أردت بإصدار تلك الصحيفة مواجهة الصحف الفرنسية التي كان يملكها ايف ماس. الذي عرف قبل الاستقلال بعدائه الشديد للمغرب وحركته الوطنية. 
وبعد الموافقة، أصدرت في الدار البيضاء سنة 1970 صحيفة باللغة الفرنسية اسميتها "لادبيش" (la  depeche) (البرقية). وكانت صحيفة صباحية جمعت لها مجموعة من الشبان عمل بعضهم في الوكالة والاخرون في الصحف.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة + 16 =

زر الذهاب إلى الأعلى